Thursday, May 7, 2009

الكاتب علي الصراف


أعداد ضحايا الحرب في العراق ما تزال موضع جدل، حتى بعد مضي ست سنوات على الغزو.
التقديرات التي تقدمها جمعيات غربية تزعم انها "مستقلة" تقول ان أعداد الضحايا يتراوح بين 100 و150 ألف عراقي. والمؤسسات الرسمية العراقية تكرر هذا الرقم لانه ليس من مصلحتها الكشف عن أبعاد المجزرة التي خاضتها قوات التحالف والمليشيات الطائفية المتعاونة معها ضد ما لا يحصى من الأبرياء. في حين أن التقديرات التي اعتمدها جامعة جون هوبكنز الاميركية عام 2006 لإحصاء عدد الضحايا قالت أن كل عام من أعوام الغزو أوقع ما بين 200 و250 ألف ضحية. وهو ما يعني أن أعداد الضحايا يبلغ اليوم ما بين 1.2 مليون و1.5 مليون قتيل.
صحيح أن موجات أعمال القتل ظلت تتراوح بين صعود وهبوط، إلا أنها ظلت مستمرة. والأهم في هذه الموجات هو أن أجواء الحقد والكراهية والانتقام ما تزال هي القوة الدافعة الرئيسية وراء تلك الأعمال.
هذه الأجواء لم تتغير. وهي تُمارس من قبل قوات الاحتلال والمليشيات الطائفية التابعة لها لأسباب مختلفة، إبتداءً من الثأر لمقتل جنود، الى الثأر لانتهاكات سابقة، الى الأحقاد الطائفية التي تشكل الأداة الرئيسية لكسب المحازبين لصالح أحزاب السلطة، الى الدفاع عن المصالح الجديدة لطبقة من الطفيليين والرعاع، الى أعمال الانتقام الشخصي، الى الخوف من انتقام الضحايا بما يدفع الى التضحية بالمزيد منهم، الى التعويض عن الحرمان ومشاعر النقص.
وتدفع هذه الأجواء الضحايا الى دائرة الانتقام المضاد أيضا.
هكذا تحول العراق الى حمام دم حقيقي وفعلي. حمام احمر تسيل الدماء على جدرانه وسقفه وأرضيته؛ صندوق مغلق يبطش فيه الاحتلال ومليشياته بالأبرياء، لأن أعمال القتل الجماعي هي الوسيلة الوحيدة للنجاة.
وهي أجواء عامة للغاية، يشترك فيها كل المسؤولين عن الاحتلال، وكل المشاركين في عمليته السياسية، ويمكن ملاحظتها في تصريحاتهم وتصرفاتهم والتوترات التي يثيرونها واعمال المحاصصة التي بنوا عليها نظامهم الجديد.
والدم ما يزال يسيل على جدران الحمام وسقفه وأرضيته، وبالكاد يمكن وقف المجزرة. فهي اكتسبت آليات وقوة دفع قائمة بذاتها. ولم تظهر حتى الآن، لا في السياسية ولا في السلوك ولا في تقسيم المصالح، آليات أو قوة دفع جديدة تبرر الاعتقاد انه صار بالإمكان الحد من المجزرة.
ومن تفجيرات انتقامية، الى غارات وحشية، الى أعمال قتل معلنة وغير معلنة، فان العراقيين صاروا يسبحون بدمائهم بالفعل. وتحت مجرى الدماء لا يجدون إلا الجثث.
لدى محاكمته في قضية اغتصاب وقتل الفتاة عبير قاسم الجنابي، قدم الجندي الاميركي السابق ستيفن غرين صورة لـ"دوامة من الجنون" كانت هي التي دفعته الى ارتكاب جرائمه.
محامي غرين هو الذي قدم هذا الوصف، ولكنه لم ينتبه انه وهو يدافع عن موكله، كان في الواقع يقدم وصفا للحرب برمتها، ولدوامة الجنون التي كان البيت الأبيض يقودها للانتقام من الأبرياء العراقيين لضحايا 11 سبتمبر، وانتقاما من القصف العراقي لإسرائيل.
الرغبة بالانتقام كانت هي الدافع الأول للحرب، لا البحث عن أسلحة دمار شامل. والقتل بلا حدود، وبلا توقف، كان هو العنصر "الشافي" الوحيد لتلك الرغبة في نفوس مليئة بالحقد والكراهية العمياء.
ولئن كان الحقد هو كل القصة، فقد تم إلباسها لباس المصالح، وأضيفت عليها دوافع أيديولوجية. وأبعد من ذلك، تم رفعها الى السماء أيضا بالقول أن الولايات المتحدة تؤدي رسالة ربانية، وان الله نفسه كان يتحدث مع جورج بوش ليقول له: "جورج، اذهب لتزيل الديكتاتورية من العراق".
وكلما كان التصعيد الأيديولوجي يرتفع الى أعلى أكثر، كلما كان البطش بدماء الأبرياء يتصاعد أكثر. وعندما أصبحت المهمة ربانية، كان ذلك يعني من الناحية العملية قتلا بلا حدود، وكان كل جندي أميركي يدور في "دوامة من الجنون"، حتى صار كل فرد من أفراد الجيش الاميركي هو ستيفن غرين، من ديفيد بيترايوس الى ديك تشيني، ومن بول بريمر الى جورج بوش، ومن أياد علاوي الى نوري المالكي. الكل في الحمام. والكل يبطش. والكل مؤمن بان القتل هو سبيله الوحيد للتشافي، وانه إذ يسفك دماء الأبرياء، فان عذره معه، لانه يؤدي مهمة رسالية، وان الله معه، حتى ليصبح مرأى الدماء والجثث سيمفونية تدفع الى الانتشاء. وذلك مثلما كان اغتصاب فتاة وحرق جثتها وقتل أمها وأبوها وأخوتها أمرا مثيرا للنشوة لدى الجندي غرين.
والجندي غرين، هو نفسه الجندي وايت، وبراون، وبلاك والحكيم وعلاوي والمالكي. فالبطش هو مصدر النشوة، ومجرى الدماء على جدران الحمام هو الرسالة.
غرين قال للمحكمة انه قاد عمليات القتل لانه كان مهتما فقط بقتل العراقيين "كل الوقت وبلا توقف". وكشف انه تفاخر خلال حفل شواء بعد ارتكاب الجريمة بأن ما فعل كان "عملا عظيما"، وانه "بث الرعب في النفوس".
وفي المحكمة خاطب محامي الدفاع المحلفين بالقول "يجب ان تفهموا الخلفية التي أدت الى دوامة مثالية من الجنون". وقال "لم يكن بوسعهم (الجنود) ان يعرفوا ما اذا كان سكان القرية والمزارعون من المتمردين والارهابيين".
جورج بوش نفسه لم يكن يعرف أيضا ما إذا كان العراق يملك أسلحة دمار شامل ام لا. ولم يكن ديفيد بيترايوس ولا أسلافه في المهمة الإلهية، قادرا على التمييز بين المدنيين والإرهابيين. والدوامة المثالية للجنون كانت دوامة أميركية بريطانية إيرانية عامة للانتقام من بلد قدم نفسه كتحد استراتيجي خطير، وكقوة قادرة على أن تفرض نفسها في المنطقة.
والغزو، ما يزال الى يومنا هذا، "عملا عظيما" من وجهة نظر الشركاء في التحالف. و"بث الرعب في النفوس" كان بالأحرى استراتيجية معلنة للحرب عنوانها الرسمي: "الصدمة والترويع".
على هذا الأساس صار غرين هو نفسه وايت، وبراون، وبلاك وبوش وبلير ورامسفيلد وغيتس.
الآن، يحاول الدفاع أن يثبت إن جرائم موكله وقعت لانه كان يعاني من "اضطرابات في الشخصية".
وسيأتي الوقت لتعترف الولايات المتحدة انها كانت مهتمة فقط بقتل العراقيين "كل الوقت وبلا توقف"، وانها كانت ترسل جنودها ومرتزقتها الى العراق لتمارس "الصدمة والترويع" لانها كانت تعاني من إضطرابات في الشخصية.
وها هم ما يزال يقتلون ويحرقون ويدمرون ويغتصبون ويعذبون ويغرقون في حمام الدم، لانهم يعتقدون انهم يقومون بعمل عظيم.
alialsarraf@hotmail.com

إدارة أوباما والإستراتيجية الأميركية: الأيام المائة الأولى.. بقلم علاء بيومي




www.alaabayoumi.com
يتوصل التقرير الحالي الصادر عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن لعدد من النتائج الهامة بخصوص بصمة إدارة أوباما على الإستراتيجية الأميركية خلال أيامها المائة الأولى في السلطة، حيث يرى التقرير أن مهمة استعادة مكانة أميركا الاقتصادية الدولية سوف تطغى على ولاية أوباما الأولى، وأن التركيز على أفغانستان وباكستان هو أكبر تغيير أدخله أوباما على الإستراتيجية الأميركية في الوقت الراهن، وأن إستراتيجية أوباما في العراق تعاني من غموض ونقص واضحين خاصة في حالة تدهور الوضع الأمني هناك

وفي البداية يؤكد مؤلف التقرير أنطوني كوردسمان أنه لا يوجد رئيس أميركي قادر على تغيير إستراتيجية أميركا خلال مائة يوم لأسباب عديدة، فالرئيس يدخل الحكم بدون فريق عمل ويحتاج لشهور لبناء فريق الأمن القومي الخاص به، كما أنه يدخل الحكم في ظل ميزانية أقرت في العام السابق لتوليه الحكم، والميزانية هي من تتحكم في واقع السياسات على الأرض، كما أنه يواجه مشاكل دولية يعود بعضها لأكثر من نصف قرن على غرار أزمة الشرق الأوسط في حالة إدارة أوباما

لذا فإن أقصى ما يمكن أن يحققه الرئيس - خلال أيامه المائة الأولي بالبيت الأبيض - هو أن يعيد التفكير في أهداف ومبادئ الإستراتيجية الأميركية، ومحاولة إعادة تقييم تلك الأهداف، وفي هذا السياق يتوصل كوردسمان إلى النتائج الهامة التالية

أولا: أن حل الأزمة الاقتصادية داخليا واستعادة مكانة أميركا الاقتصادية الدولية - والتي تعد ركيزة هامة من ركائز إستراتيجية أميركا ونفوذها حول العام - سوف "تسيطر على ولاية أوباما الأولى" خاصة وأن علاج الأزمة الاقتصادية لن يكون عملية سهلة وسوف يتطلب "تجارب" أو محاولات عديدة قد يكتب لها النجاح أو الفشل

ثانيا: تحرك أوباما سريعا وبشكل يحسب له في توجيه اهتمام أميركا نحو الحرب في أفغانستان وباكستان وتغيير بعض أدوات الإستراتيجية هناك مثل المطالبة بزيادة الجنود الأميركيين، وتقديم مزيد من المساعدات لباكستان، والدعوة لدبلوماسية إقليمية نشطة لحل المشكلة الأفغانية تضم الدول المحيطة بما فيها إيران

ثالثا: على عكس أفغانستان، تعاني إستراتيجية أوباما تجاه العراق من عجز واضح، فلم يعلن أوباما عن إستراتيجية جديدة للحرب، ولم يناقش إستراتيجية الإدارة في حالة انزلاق العراق نحو مزيد من التوتر الطائفي أو العرقي مع انسحاب القوات، هذا في الوقت الذي أبدى فيه أوباما مرونة كبيرة في إتباع نصائح قادة القوات الأميركية بالعراق فيما يتعلق بوتيرة الانسحاب

رابعا: بصفة عامة نجح أوباما في التحرك سريعا لمواجهة التدهور الخطير في صورة أميركا حول العالم خلال عهد الرئيس جورج دبليو بوش، حيث نجح أوباما في تصوير إدارته على إنها أكثر استعدادا للحوار والإنصات والتعاون الدولي

خامسا: لم يحصل أوباما على دعم كبير من دول حلف الناتو من أجل مساعدته في حرب أفغانستان، ولكنه أعاد توجيه أهداف الناتو نحو الدفاع عن أمن أعضائه بدلا من التركيز بشكل أساسي على التدخل في حربي العراق وأفغانستان

سادسا: أعلن أوباما نيته المضي قدما في جهود نزع أسلحة الدمار الشامل من خلال التعاون مع روسيا بهذا الخصوص

سابعا: فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي أعلن أوباما عن نيته التركيز على إيجاد حل للصراع خلال ولايته الأولى ورفضه تسويف القضية لنهاية ولايته الثانية كحال الرؤساء الأميركيين السابقين، كما أعلن حرصه على دفع جهود السلام بين سوريا وإسرائيل ودعم مبادرة السلام العربية

ثامنا: توقف أوباما عن استخدام مصطلح "الحرب العالمية على الإرهاب" احتراما لمشاعر العالم الإسلامي، حيث رأى البعض أن المصطلح موجه ضد الإسلام والعرب في جوهره، وفي هذا السياق حرص أوباما على إبراز حرصه على التعاون مع الحكومة التركية كنموذج لدولة مسلمة تقودها حكومة إسلامية

تاسعا: بخصوص إيران، أعلنت إدارة أوباما معارضتها لشن إسرائيل ضربة جوية ضد منشئات إيران النووية، في الوقت الذي أكدت فيه الإدارة معارضتها الشديدة لاستمرار إيران في برامج التسلح النووي وفي دعم حركات كحزب الله وحماس

أخيرا: وبخصوص الجيش الأميركي طالبت إدارة أوباما بأموال إضافية خلال العام الحالي مقدرها 75.5 بليون دولار توجه بالأساس لدعم حربي أفغانستان والعراق خلال عام 2009، وذلك على الرغم من الأزمة الاقتصادية، ويفسر ذلك أن ميزانية عام 2009 والتي أقرت في عهد الرئيس بوش لم تتضمن مصاريف الحربين، وذلك كعادة إدارة بوش والتي كانت تبقي تكاليف تمويل الحرب خارج الميزانية وتمولها من خلال مخصصات مالية إضافية تطلب تباعا

لذا حرصت إدارة أوباما على أن تقر مصاريف الحربين في الميزانية الجديدة، حيث طالبت الإدارة بميزانية دفاع قدرها 663 بليون دولار في عام 2010 تخصص 130 بليون دولار منها لحربي أفغانستان والعراق في محاولة من قبل إدارة أوباما للتحكم في تكاليف الحربين من البداية وتخفيضها

كما أكدت إدارة أوباما عزمها تطوير الجيش الأميركي في اتجاه دعم قدراته في مجال حروب العصابات والحرب داخل المدن مما يستدعي الاهتمام بالقوات البرية وعدم التركيز فقط على القوات الجوية الأميركية كما كان الحال في الماضي، وكذلك التخلي عن برامج الأسلحة عالية التكنولوجيا والتكاليف (الطائرات والصواريخ) لصالح برامج الأسلحة الأقل تكنولوجيا وتكلفة والتي يحتاجها الجيش في الفترة الحالية (مثل أنظمة الاستخبارات الحربية والعربات المصفحة التي تسير عن بعد)، وهو تحول هام وضخم سوف يستغرق سنوات وخطط عديدة ودقيقة لتنفيذه

كما توقع التقرير أن يساهم تولي هيلاري كلينتون لوزارة الخارجية الأميركية في زيادة ميزانية الخارجية الأميركية وفي تنشيط دور الدبلوماسية في الإستراتيجية الأميركية بشكل عام

وفي النهاية أكد التقرير على أن إعلان النوايا وحده لا يكفي، وأن الأهم هو الميزانيات والخطط المفصلة والخطوات الحقيقية التي سوف تتخذها إدارة أوباما للتعامل مع القضايا الإستراتيجية التي تواجهها، وأن حصيلة الأيام المائة الأولي لأوباما في الحكم هي مجموعة من البدايات والمفاهيم والنوايا التي قد يحتاج بعضها لسنوات لتحقيقه وإن كان هذا لا يقلل من أهمية رصدها – كما حدث في التقرير الحالي – والبحث عن تبعاتها وتطوراتها في تقارير مستقبلية

----

للإطلاع على النص الكامل للتقرير يرجى زيارة

http://www.csis.org/component/option,com_csis_pubs/task,view/id,5411

مصر وحزب الله : ٣ سنوات من الحرب

ما بين مصر و«حزب الله»، ومنذ ثلاث سنوات، سجال علني وحرب بالوكالة. إنها فصول تتلاحق في المواجهة المصرية ـ الإيرانية على امتداد المنطقة. القاهرة توجّه اتّهامات وإهانات الى قائد المقاومة اللبنانية، وهو يردّ بعبارات من العيار الثقيل، وإسرائيل في النهاية هي المستفيد الأول. هذه المرة بنيامين نتنياهو هو الذي يضحك ومهمّته في واشنطن الشهر المقبل لن تكون صعبة. يكفي أن يحمل معه الصحف المصرية كي يدعم وجهة نظره القائلة: التسوية يفترض أن تنتظر، والأولويّة لـ«حزب الله» و«حماس» وإيران.




بدايات السجال كانت كالآتي:

نصر الله: الموقف المصري هو حجر الزاوية في ما يجري في غزّة. يا ضباط وجنود القوّات المسلّحة المصرية أنتم ما زلتم على أصالتكم العروبية وعلى موقفكم المعادي للصهاينة. إضغطوا على القيادة السياسية لفتح المعبر.

أبو الغيط: أحدهم ممن تحدّثوا بالأمس طالب شعب مصر بالنزول الى الشارع وإحداث حالة من الفوضى في مصر، مثلما خلقوا هذه الفوضى في بلادهم... كما تحدّث الى القوّات المسلّحة المصرية مطالباً إياها بالتمرّد. هذا الشخص لا يعي من أمره شيئاً، ولا يعي أن هذه القوّات هي قوّات شرعية للدفاع عن مصر، وأقول له هيهات، لأن هذه القوّات شريفة وقادرة على الدفاع عن هذا الوطن ضد أمثالك. ومتوجّهاً الى نصر الله من دون أن يسمّيه قائلاً: أنت ترغب في الفوضى في هذا الإقليم خدمة لمصالح ليست في مصلحة أهل الإقليم.

وفي مقابلة مع التلفزيون المصري قال أبو الغيط: إن «حزب الله» دمّر لبنان في حرب العام ٢٠٠٦، وصواريخ الكاتيوشا والقذائف الصاروخية التي يستخدمها لا تضاهي ما يملكه الجيش المصري. وسأل: هل تعرف ما هي القوّات المسلّحة المصرية؟ هل هي ١٥ صاروخاً من نوع كاتيوشا أو ٨٠ مدفعاً من نوع «آر بي جي»؟ إن القوّات المصرية أكبر من كل من يتحدّث عنها.

هكذا بدأت، لكن لهذه البداية بدايات أخرى. البداية المكشوفة كانت في العام ٢٠٠٦ حين وجّهت القاهرة انتقادات صريحة الى الحزب تتهمه بالتهوّر، وتحمّله بصورة مباشرة مسؤولية اندلاع الحرب على لبنان. وقد تم في حينه احتواء الموضوع باتصالات جرت بين «حزب الله» والسفارة المصرية في بيروت. في هذه الاتصالات، ذهبت القاهرة الى أبعد، إذ دعت قيادات «حزب الله» الى زيارة مصر والتعرّف عن قرب الى وجهة النظر المصرية من حرب تموز (يوليو) ٢٠٠٦ ومن حرب غزّة، والموقف الرسمي المصري بكل أبعاده السياسية والأمنيّة والاستراتيجية، لكن قيادة الحزب رأت أن الوقت لم يحن بعد لتلبية هذه الدعوة، فسكنت الأمور على زغل من دون تطبيع.

ومن أين يأتي الزغل؟

إنه يأتي من مصادر متعدّدة لعل أهمّها: القطيعة التي تتواصل منذ ما يقرب الثلاثين سنة بين القاهرة وطهران منذ انتصار الثورة الخمينية. منذ ذلك التاريخ و«تطبيع التباعد» يفرض نفسه شعاراً في العلاقات الثنائية. في شرح أسباب هذا التباعد قيل إن القاهرة عاتبة بسبب تركيز لوحة جدارية في أحد شوارع العاصمة الإيرانية تحمل اسم خالد الإسلامبولي، أحد المتّهمين الرئيسيين في اغتيال الرئيس أنور السادات. وقيل إن ضريح شاه إيران في القاهرة هو السبب. قيل أيضاً إن مصر تشترط لإعادة الوصل حلّ قضية الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلّها إيران منذ أربعة عقود، الى جانب ملفّات أمنيّة وسياسية أخرى أبرزها الملف النووي الإيراني وطموحات طهران الإقليمية.

بعض هذه الاجتهادات سقط من تلقاء نفسه، عندما شارك الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في القمّة الخليجية في الدوحة، وطرح على القادة الخليجيين الحاضرين مبادرة شاملة للتقارب تتضمّن ١٢ اقتراحاً، ودعاهم الى زيارة طهران من أجل مناقشتها. الرد الخليجي لم يكن سلبياً، بدليل أن دول مجلس التعاون تريّثت في الاستجابة لمطالبة روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي باعتبار إيران مصدر التهديد الأول لدول المنطقة (بدلاً من إسرائيل)، وأكدت أهميّة التواصل مع إيران بالنسبة الى الأمن الخليجي. في تلك المرحلة، توقّع عدد غير قليل من المراقبين أن تعيد مصر علاقاتها مع إيران انسجاماً مع الموقف الخليجي، إلا أنها لم تفعل.

لماذا؟ ببساطة، لأن القاهرة قلقة من دور إيران الإقليمي الآخذ في التوسّع، وقلقة أيضاً من اعتراف أميركي محتمل بهذا الدور. فالنفوذ الإيراني في العراق يبدو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، وهو أقوى من نفوذ الولايات المتحدة، وفي واشنطن من يرى أن القاهرة عاجزة عن الوصول الى هذا المستوى من التأثير. والنفوذ الإيراني لا يقتصر على العراق، ويمكن تلمّسه بوضوح كامل في لبنان كما في فلسطين المحتلّة وبعض دول الخليج. وبسهولة يمكن ملاحظة أن مصر لا تملك خطة محدّدة وهادفة لمواجهة التوسّع الإيراني، وأن تعاملها مع هذا التوسّع يقتصر على ردود الفعل، في حين أن إيران تمسك بزمام المبادرة. وفي ظل هذا الوضع، تبدو المعارك السياسية التي تخوضها القاهرة، بأشكال مختلفة، محدودة التأثير وعشوائية الى حد بعيد، وبسبب عشوائيّتها فهي تؤدّي في معظم الحالات الى نتائج عكسية تفيد منها إيران.

ويقول العارفون إن معارك القاهرة «الصغيرة» لا تساعد كثيراً على تحسين العلاقات، لا سيما وأن هناك اتجاهين في طهران: الأول يريد ترميم العلاقات، ويتحرّك فعلاً في هذا الاتجاه منذ أواخر الثمانينيات، أي منذ انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية. والاتجاه المناوئ يعمل على تخريب أي جهد يقوم به المعتدلون لتنقية الأجواء، وكل مشكلة تفتعلها القاهرة تعيق جهود الفريق الحواري.

هذا الارث التاريخي من اللاودّ بين القاهرة وطهران، أكبر بطبيعة الحال من قضية التنظيم الأصولي الموالي لـ«حزب الله» في مصر، بدليل أن السلطات المصرية سبق أن ضبطت في السنوات الأخيرة تنظيمات مشابهة من دون أن تعلن عنها، تفادياً لمزيد من الأزمات مع إيران. هذه المرة، تعمّدت الاعلان وإعداد مضبطة اتّهام ضد الحزب، وكأنها لم تغفر بعد للسيد حسن نصر الله دعوته للجيش المصري الى «الخروج على النظام». أمر آخر لم تغفره القاهرة هو تنامي العلاقة بين طهران وجماعة الإخوان المسلمين وحركة «حماس». وخلال زيارات خالد مشعل الأخيرة لطهران حرص على الاشادة بالدعم الإيراني لغزّة في معرض التأكيد على هذا التقارب، وهذا يعني أن النفوذ الإيراني داخل مصر مرشّح للتوسّع، ويرجّح أن تكون الانتقادات الحادّة التي وجّهتها إيران الى الرئيس المصري حسني مبارك قد لقيت صداها لدى الإخوان المصريين. واقتناع القاهرة أنه إذا نجحت إيران في توثيق علاقاتها مع «الإخوان»، فإن النفوذ الإيراني سوف يكسب مساحة أكبر على امتداد العالم العربي.

ومعروف أن القاهرة تشكّك منذ فترة طويلة بعلاقة الإخوان مع طهران، وهي علاقة تتمظهر في الدعم الذي تلقاه «حماس»، وعندما يقول مشعل في إيران إنها لعبت دوراً كبيراً في انتصار أهالي غزّة، وإنها شريك في هذا الانتصار، فإن لهذا الكلام أبعاداً خطرة في نظر المسؤولين المصريين.

الى هذه المسألة، لا بدّ من إضافة قضية أخرى قد تكون في المستوى نفسه من الأهميّة، وهي حملة «التشيّع» التي يشكو منها المسؤولون المصريون ومؤيّدوهم. ولهذه الشكوى بعد تاريخي أيضاً، لأن المصريين أكثر تقبّلاً للفكر الشيعي من غيرهم من السنّة، وأحد الأسباب هو حكم الأسرة الفاطمية الذي عرفته مصر في القرن العاشر. وقد تركت فترة الخلافة الفاطمية داخل مصر انفتاحاً على الممارسات الشيعية وتقاليدها، وهي حالة ليست موجودة في العالم السنّي الكبير. على سبيل المثال، يؤمن المصريون بأن الحسين (ع) الإمام الشيعي الثالث وأسرته دفنوا في القاهرة وليس في كربلاء (العراق)، وأن مدافن الحسين (ع) والسيدة زينب (شقيقته) والسيدة سكينة (ابنته) هي الأماكن الأكثر قدسيّة في الإسلام بعد مكة والمدينة المنوّرة. وكما يفعل الشيعة، فإن كثيرين من السنّة في القاهرة يؤدّون طقوس عاشوراء في ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) كل عام. وفي السنوات الأخيرة تتكرّر الشكوى المصرية من تصاعد المد الشيعي وظاهرة التشيّع، مما حمل الحكومة المصرية ووسائل الاعلام الرسمية على شنّ حملة ضد الرموز الشيعية. وليس سرّاً أن العالم الديني البارز الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين حذّر من «المد الشيعي» والأنشطة التبشيرية الشيعية خصوصاً في مصر، ومما قاله: إن تزايد عمليات تسلّل المذهب الشيعي في مصر، قد يؤدّي الى حرب أهليّة مثل تلك التي يشهدها العراق. ولا توجد إحصاءات حول عدد الشيعة المصريين. مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية يقدّر أن الشيعة يشكّلون أقلّ من واحد في المئة من الشعب المصري، إلا أن محمد الدريني، وهو سنّي اعتنق المذهب الشيعي، يقدّر هذا العدد بمليون ونصف مليون.

نصل الى السجال الأخير. هذا السجال أحدث تصاعداً في حدّة التوتّر بين مصر و«حزب الله» على خلفيّة اعتقال أحد عناصر الحزب، ومعه خليّة من ٤٩ شخصاً ينتمون الى أربع دول عربية دخلوا مصر بطريق غير شرعية، واستخدموا جوازات سفر مزوّرة، وأسماء حركيّة بهدف تضليل أجهزة الأمن، وبعضهم عن طريق الأنفاق بين مصر والقطاع. ويقول المصريون إن القيادي في «حزب الله» محمد قبلان واسمه الحركي «محمود»، أقام في مصر بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ للبدء في تجهيز واستقطاب «العناصر الارهابية» (التعبير للمصدر المصري)، وأن خطة الحزب التخريبية اعتمدت إرسال عناصر على دفعات لتنفيذ عملياتها في الموعد المحدّد. استمر ذلك الى أن وقعت حرب غزّة، وتم الدفع مرة أخرى بقيادي اخر من «حزب الله» هو محمد يوسف منصور الذي استخدم اسماً حركياً هو «أبو يوسف»، وهو من الضاحية الجنوبية في بيروت، ليقود المخطط التخريبي داخل مصر، وكان يحمل جواز سفر مزوّراً.

الأمين العام لـ«حزب الله» أقرّ بأن سامي شهاب الذي اعتقلته السلطات المصرية أخيراً عضو في الحزب، وكان يقدّم دعماً لوجستياً لفلسطينيي غزّة، معتبراً أن الادانة هنا يفترض أن توجّه الى النظام المصري، لكنه نفى أن يكون لدى الحزب أي مخطّط تخريبي، وأضاف: إن الأخ سامي تعامل مع عدد قليل من الأفراد يصل الى عشرة، ولا يملك الحزب معلومات حول باقي المعتقلين. وأضاف: إذا كانت مساعدة الفلسطينيين المحتلّة أرضهم والمشرّدين جريمة، فأنا أعلن رسمياً أنني أعترف بهذه الجريمة، فهي ذنب لا نستغفر منه بل نتقرّب به الى الله، وليست هذه أول مرة يتم فيها القبض على عناصر من «حزب الله» يحاولون تقديم مساعدة للفلسطينيين.

الرواية المصرية مختلفة تماماً، وهي تسوق على لسان النائب العام الاتّهامات الآتية:

< تأسيس مشاريع تجارية لاتّخاذها سائراً لتنفيذ عمليات ضد الأمن المصري.

< مسح القرى والمدن على الحدود المصرية ـ الفلسطينية.

< استئجار بعض العقارات المطلّة على المجرى الملاحي لقناة السويس لرصد السفن التي تعبر القناة.

< رصد المنشآت والقرى السياحية في محافظتي شمال وجنوب سيناء.

< توفير كميّات من المفرقعات وإعداد العبوات المفرقعة.

< تزوير جوازات السفر والبطاقات الشخصية واستئجار الشقق والسيارات اللازمة لتحرّك عناصر التنظيم.

< استئجار شقق مفروشة في بعض الأحياء الراقية واستخدامها لاجتماعات عناصر «حزب الله»، وعقد الدورات التدريبية لعناصر التنظيم.

< نشر الفكر الشيعي داخل مصر.

وفي انتظار أن تنتهي النيابة العامة المصرية من ترتيب أوراق المحاكمة، يميل عدد من المراقبين الى أن ملف مصر مع «حزب الله» بدأ سياسياً وانتهى قضائياً، بسبب تداخل مشاكل غزّة مع المعادلة المصرية الأمنيّة، وتشابك عدد من القضايا المطروحة وأبرزها علاقات «حماس» بإيران بـ«حزب الله» وبالإخوان المسلمين، الأمر الذي يعطّل الرؤية على المديين القريب والمتوسط. وفي أي حال، فإن الأزمة الحالية تصبّ كلّها في مصلحة إسرائيل، وبصورة خاصة في مصلحة حكومة نتنياهو الجديدة. في هذا السياق تقول «هآرتس» إن من شأنها أن تعزّز التعاون الاستخباري والتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنيّة الإسرائيلية والمصرية.

أكثر من ذلك، يرجّح المعلّق العسكري للصحيفة عاموس هارئيل، أن تكون الأجهزة الأمنيّة المصرية قد نجحت في إلقاء القبض على المجموعة بناءً لمعلومات تلقّتها من الاستخبارات الإسرائيلية، بدليل أن الكشف عن الخليّة جاء في ذروة تعاون أمني بين تل أبيب والقاهرة في مجال الكشف عن أنفاق التهريب بين إسرائيل وقطاع غزّة.

من جهته، اعتبر حنان كريستال المعلّق السياسي في قناة التلفزيون الأولى والاذاعة الإسرائيلية، أن السجال بين «حزب الله» ومصر «فرصة ذهبية» لحكومة نتنياهو، لأنه يصرف الأنظار عن الطابع المتطرّف لهذه الحكومة، ومواقفها من القضية الفلسطينية التي لا تلقى قبولاً دولياً. ومما قاله: منذ أن تشكّلت الحكومة تصدّرت جدول الاهتمام العالمي تصريحات وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان المثيرة للسخرية، أما الآن وفي ظل الأزمة، فإن في وسع نتنياهو أن يكسب شرعية لحكومته، بعد أن ينجح في خياطة فم ليبرمان كي تبقى الأضواء مسلّطة على مصر و«حزب الله».

عن مجلة "المشاهد السياسي"