Wednesday, June 3, 2009

مقياس تفاضل الناس في مراقي الشرف والمجد

أيها المسلمون، لا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمجد، ولا تنزل الهمم وتسقط التطلعات إلا بمقدار ما تتمتع به النفوس من ضبط السلوك وقوة الإرادات. فالرجل ذو العزيمة يتجلى فيه مظهر الكرامة الإنسانية مطبوعًا على أجمل صورة من الكمال والنبل، وبسبب ضعفها وهوانها ينزل المرء من سماء الإنسانية العالي ليكون أشبه بالحيوان ساقطًا مهملاً.

قيمة المرء إباؤه وعزيمته، وميزانه نزاهته وسمعته، وشرفه في طهارة عرضه وبياض صفحته ونقاء ذيله.

لقد كان الشرفاء الأحرار في كل الأمم حتى في عصور الجاهلية المظلمة يعتزون بشرف سمعتهم، وصيانة أعراضهم، ويقفون دونها أسُودًا كاسرة، ونمورًا مفترسة، يغسلون إهانة أعراضهم بأسنَّة رماحهم وحد سيوفهم، لا ينامون على إهانة، ولا يصبرون على عار، ولا يقبلون ذلة، ولقد قالت هند بنت عتبة وهي تبايع رسول الله : (أَوَتزني الحرة يا رسول الله؟!!)[1].

أيها الإخوة، يُثار هذا الموضوع وتُقلَّب صفحاته وأهل هذا الزمان في كثير من الأقطار يعيشون في عصر يوشك أن تسود فيه الإباحية ليجعلوا ارتكاب الفواحش والموبقات حاجاتٍ بدنيةً لا يعاقب عليها القانون مادامت محفوفةً بالتراضي. ومما يكشف ذوبان الهمة وموت الإنسانية حين يشاهَد رجلٌ ينقاد للبهيمية فيأتي الفاحشة ويعانق الرذيلة، ويشتد الخزي ويعظم الشنار حين لا يكون مستورًا عن أعين المشاهدين والمشاهدات؛ إنها حضارة البهائم في تلك الديار بحدائقها ومتنزهاتها وشواطئها وأفلامها وقنواتها.

من أجل هذا أيها الإخوة، فهذا حديث عن جريمة من أبشع الجرائم، وفاحشةٍ من أكبر الفواحش، وموبقةٍ من أخطر الموبقات، تتجلى فيها هذه البهيمية المغرقة. جريمة تفقد فيها الشهامة، وتذهب بالمروءة، يحل مكان العفاف فيها الفجور، وتقوم فيها الخلاعة مقام الحشمة، وتطرد فيه الوقاحة جمال الحياء. إنها جريمة الزنا؛ كم جرَّعت من غصةٍ، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم خبأت لأهلها من آلامٍ منتظرة، وغمومٍ متوقعة، وهمومٍ مستقبلة.

((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السماع، والفم يزني وزناه الكلام والقبَل، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجل تزني وزناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يُصدِّق ذلك أو يكذبه))[2].

أيها الإخوة، الإسلام يقف من هذه الجريمة موقف حزم وحسمٍ، وصراحةٍ وصرامة؛ إنه يمتدح الشهمَ الكريمَ الذي يغارعلى نفسه ويغار على حرماته، ويندد بالديوث الذميم الذي يقر الخبث في أهله. لتبقى الأعراض مصونة، والشرف موفورًا عزيزًا.

لقد اقترن حال الزاني بحال المشرك في كتاب الله: ٱلزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

الزنا محرم بقواطع الأدلة؛ في محكم القرآن وصحيح السنة وإجماع أهل الملة بل إجماع أهل الملل.

إنه قرينٌ لأعظم موبقتين الشرك بالله وقتل النفس: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً [الفرقان:68-70].

يقول الإمام أحمد: لا أعلم بعد القتل ذنبًا أعظم من الزنا.

والله سبحانه في محكم تنزيله نهى عن قربه والدنو منه مما يعني البعد عن بواعثه ومقدماته ودواعيه ومثيراته فقال سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. قال أهل العلم: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ هذا قبح شرعيٌ؛ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وهذا قبحٌ عقليٌ وَسَاء سَبِيلاً وهذا قبحٌ عادي. قالوا: وما جمع ذنبٌ هذه الوجوه من القبح إلا وقد بلغ الغاية فيها.

أيها الإخوة، ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))[3]. بهذا صح الخبر عن نبيكم محمد. زاد النسائي في رواية: ((فإذا فعل ذلك خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه))[4]. وفي رواية للبزار: ((والإيمان أكرم على الله من ذلك))[5].

وفي خبر عند أبي داود والترمذي والبيهقي: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان كالظلة على رأسه، ثم إذا أقلع رجع إليه الإيمان))[6].

وفي صحيح البخاري في حديث المنام الطويل وفيه أنه عليه الصلاة والسلام جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور؛ أعلاه ضيق وأسفله واسعٌ فيه لَغَطٌ وأصوات؛ قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ فإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي صاحوا من شدة الحر ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الزناة والزواني))[7] فهذا عذابهم إلى يوم القيامة عياذًا بالله.

وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عيسى عليه السلام: لا يكون البطالون حكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. وفي جهنم نهر يقال له نهر الغوطة يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهم. وأخرج الخرائطي وغيره مرفوعًا: ((المقيم على الزنا كعابد وثن)). قال أهل العلم: ويؤيده ما صحَّ من أن مدمن الخمر إذا مات لقي الله كعابد وثن. قالوا: ولا شك أن الزنا أشد وأعظم عند الله من شرب الخمر.

الزنا يجمع خلال الشر كلها؛ قلة الدين، وذهاب ورع، وفساد مروءة. الغدر والكذب شعاره، وقلة الحياء والخيانة دثاره، وعدم المراقبة مسلكه، وضعف الأنفة ديدنه، وذهاب الغيرة من القلب بليته.

ناهيك بغضب الرب وفساد الحرم والعيال، وفضائح زنا، وقبائح خنا، تذهب اللذات وتبقى الحسرات.

الزنا انتكاسة حيوانية، وارتكاسة بهيمية، تذهب بمعاني الأسرة ومشاعر الإنسانية الراقية، يُطيح بكل أهداف السمو الأسري، وعلاقات الرحم وأواصر القربي، ترد ابن آدم المكرم إلى مسخ حيواني سافل. مسخ كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة وشهوة عارمة ونزوة حيوانية بحتة.

جريمة الزنا في المجتمعات الطاهرة تتعدى في سوئها وسوءتها إلى الأسرتين، وتجلب مآسي للفئتين.

الزنا نذير رعب وفزع في فشو الأمراض، ونزع البركات، ورد الدعاء. الزهري والسيلان من أمراضه، والهربس والإيدز من أوبئته في أمراض يرسلها الله لم تكن في الأسلاف، مما يعلمون ومما لا يعلمون.

نعم أيها الإخوة، انظروا في أحوال المأفونين من أهل هذه الحضارة والمغرورين بها، لقد أطلقوا لشهواتهم العنان، استباحوا كل ممنوع. ونبشوا كل مدفون، وكشفوا كل مستور. تنصلوا من مسؤوليات العائلة، وجروا خلف كل متهتكة وفاجرة هل أدى بهم ذلك إلى تهذيب الدوافع كما يقولون؟ وهل أنقذهم من الكبت كما يزعمون؟؟ لقد انتهى بهم إلى سعار مجنون لا يهدأ ولا يرتوي. لقد قلَّ نسلهم، وتوقف نموُّهم مما ينذر بفنائهم. لقد قل نسلهم لأنهم قضوا شهواتهم بغير الطريق المشروع، وتهربوا من المسؤولية، وتبرؤوا من سياج الأسرة. الحلال عندهم لا يفترق عن الحرام. لا يغارون على محارم، ولا يشمئزون من فواحش. العلاقات عندهم معزولة عن الخلق والروح والدين والعبادة. لقد كان حفيًا عند استقبال الآلاف المؤلفة من اللقطاء وأولاد التبني، لا يسألون من أين جاءوا، ولا يكترثون بالآثار الاجتماعية التي يُخلفها من لا آباء لهم ولا أمهات، وهم يزعمون أنهم أرباب العلوم والمعارف.

بلى، إنهم عبيدٌ لفنون الإثارات والتذوق التي يُروجها الإباحيون البهيميون، يدفعون إليها الذكور والإناث دفعًا خبيثـًا في اختلاط مهلكٍ، وإعلامٍ فاضحٍ في رواياته ومسلسلاته مما ينضح فحشًا وخلاعةً وتهتكًا، ليس وراءه إلا لقاء البهائم.

إن أهل الإسلام يرفضون بحسم وحزم كل هذه المظاهر والنتائج، فالزنا فاحشة موبقة، وكبيرة من كبائر الذنوب، توصد كل الأبواب المفضية إليها. ويعاقب على وقوعها بالجلد والتغريب للبكر، والقتل للثيب بالرجم. الأسرة وحدها هي الملتقى المشروع لأشراف الناس وكرام بني آدم.

المجتمع المسلم الطاهر يمقت الزنا، ويمقت مقدماته، وينكر بواعثه ودواعيه، ليس فيه إلا علاقاتٌ طاهرةٌ على أساس من أحكام الشرع والمشاعر الإنسانية الراقية؛ يلتقي عليها قلبان وروحان وإنسانان، وليس متعتين مجردتين، وجسدين متباعدين؛ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5، 6].

لقد قطعت شريعتنا دابر هذه الجريمة، ووضعت لها جزاءً حاسمًا في صرامة جادة، وحذرت من الرأفة بالفاعلين، وزجرت عن تعطيل الحد أو الترفق في إقامته؛ بل أمرت بإقامته في محضرٍ مشهود في طائفةٍ من المؤمنين: ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

ولقد علم الله والمؤمنون أن الدماء لا تحفظ، والأموال لا تصان، والأعراض لا تحترم، والبلاد لا تصلح، والعباد لا تستقيم، والأمن لا يسود إلا بإقامة الحدود وقطع الأكف الآثمة وسد الأفواه الأفاكة. حدود الله شرعت لتحفظ النفوس من التعديات الآثمة والنزوات الطائشة.

الزاني المحصن إذا ثبت زناه استبيح دمه فكان قرينًا لتارك دينه وقاتل النفس: ((لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[8]. الله أكبر أيها المسلمون، وهل رأيتم أكبر من هذه الجرائم الثلاث؟!

أليس من السر الذي يلفت نظر العقلاء أن دين الإسلام ـ وهو دين الرحمة والرأفة حتى مع الحيوان ـ وقف هذا الموقف الشديد مع هؤلاء الزناة والزواني؟!

أليس هذا الدين الذي يحب الستر ويدعو إليه يقيم هذا الحد على مشهد من المؤمنين؟!

لماذا كل ذلك أيها الإخوة؟! إن الرأفة بالزناة ممن ثبت زناهم وتحققت جنايتهم إنما هي قسوة على المجتمع، وقسوة على الآداب الإنسانية، وقسوة على الضمير البشري، بل قسوة على حقوق الإنسان. إن القسوة في الحد أرأف ثم أرأف بالمجتمع مما ينتظره من شيوع الفواحش لتفسد الفطرة وترتكس في حمأة الرذيلة ويعيش في بيئة الأدواء والأمراض.

نعم إن الحدود جلدٌ وقتلٌ وقطعٌ، فلتشمئز نفوس الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولتغظ صدور الذين لا يرضون بحكم الله.

تبًا لهم لقد قالوا: إن إقامة الحدود غلظة وقسوة ووحشية لا تليق بحضارة اليوم. ويحهم ماذا فعلوا بالأبرياء؟! وما هو مصير الضعفاء؟! ألم ينسفوا بمخترعاتهم الجهنمية مدنًا آمنة؟ ألم يدكوا عواصم عامرة تعج بالألوف والملايين لا ذنب لهم ولا خطيئة سوى الظلم والهمجية. فيالوحشية هذا المتحضر!! ويالخراب هذا المتنوِّر!! هل علومهم ومعارفهم أتت بكل هذه البلايا؟!

وبعد أيها الإخوة، فلو حُفظت شريعة الله في كل بلاد المسلمين، وأقيمت حدود الله، وحيل بين الذين يتعدونها لما رأيت في كثير من البلاد مظاهر السقوط في الحضيض، ولما تغير عليهم ما تغير: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

ألم يعلموا أن حفظ الفروج سبيلٌ للفَرَج في الدنيا والتوفيق في المسيرة؟! واذكروا إن شئتم قصة صاحب الغار حين فرج الله عليه بعفته عن الحرام. ألم يعلموا أن حفظ الشهوات سبيلٌ للاستظلال بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؟! واذكروا ذلك العفيف الذي دعته ذات الحسن والجمال فاعتصم بخوفه من الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـٰتِ وَٱلطَّيّبَـٰتُ لِلطَّيّبِينَ وَٱلطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَـٰتِ أُوْلَـئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26].

No comments: