Friday, July 10, 2009

أيها المسلمون: احذروا حالقة الدين "التباغض، والتشاحن، والتهاجر.."

الحمد لله الذي شرع لأتباعه السلام، والمصافحة عند اللقاء وأمر بالتوادد، والتحابب بين أخوة العقيدة، واتباع الرسول المجتبى، والحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه.
ونهى وحذَّر عن الهجر، والقطيعة، والجفاء، والحقد، والعداوة، والتباغض، والشحناء، وشرفنا بالانتساب إلى ملة وشرعة المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق، وصالح الخصال القائل: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 1. الحاكم لمن أطاعه بدخول الجنة: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" الحديث 2.
ولهذا فإن حسن الخلق في الإسلام شأنه عظيم، وسوء الخلق خطره كبير، ووخيم، الأمر الذي جعل رسولنا صلى الله عليه وسلم يعده عدلاً لتقوى الله عز وجل، وسبباً رئيساً لدخول الجنة، وجعل سوء الخلق المتمثل في بذاءة اللسان، وسيء الكلام عدلاً للفاحشة والقاذورات، وسبباً رئيساً كذلك لدخول النار، وذلك عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة والنار، فبين أنَّ أكثر ما يدخل الناس الجنة "تقوى الله وحسن الخلق"، وأكثر ما يدخل الناس النار فقال: "الفم والفرْج" الحديث 3.
يدل على مكانة حسن الخلق في الإسلام، وصْفُ الرب سبحانه وتعالى لرسوله وثناؤه عليه بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" 4، ووصفه إياه كذلك بصفتين من صفاته العلا: "بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" 5.
وعدَّ عز وجل حسن الخلق وكريم الطبع سبباً ريئساً –بعد توفيق الله عز وجل- لاجتماع قلوب الأعراب الغلاظ الجفاة حوله، وعدم انفضاضهم عنه "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ" 6.
فما حقيقة حسن الخلق، المضاهي، والمخالف، والمغاير لسوء الخلق، فبضدها تتميز الأشياء؟!.
للعلماء رحمهم الله تعريفات جمة متقاربة في ذلك أحسنها وأشملها ما قاله الإمام القزويني رحمه الله في (مختصر شُعَب الإيمان) 7: (ومعنى حسن الخلق: سلامة النفس نحو الرفق الأحمد من الأفعال، وقد يكون ذلك في ذات الله تعالى، وقد يكون فيما بين الناس:
أمَّا ما يتعلق بذات الله عز وجل: فهو أن يكون العبد منشرح الصدر بأوامر الله تعالى ونواهيه، يفعل ما فرض عليه طيب النفس به، سلساً نحوه، وينتهي عمَّا حرم عليه، راضياً به غير متضجر منه، ويرغب في نوافل الخير، ويترك كثيراً من المباح لوجهه تعالى وتقدس، إذا رأى أنَّ تركه أقرب للعبوديةمن فعله، مستبشراً لذلك، غير ضجر منه، ولا متعسر به.
أمَّا في المعاملات بين الناس: فهو أن يكون سمحاً لحقوقه لا يطالب غيره بها، ويوفي ما يجب لغيره عليه منها، فإن مرض ولم يُعد، أو قدم من سفر فلم يُزر، أو سَلَّم فلم يرد عليه، أو ضاف 8 فلم يُكرم، أو شفع فلم يجب، أو أحسن فلم يُشكر، أو دخل على قوم فلم يُمكن، أو تكلم فلم يُنصت له، أو استأذن على صديق فلم يؤذن له، أو خطب فلم يزوج، أو استمهل الدين فلم يُمهل، أو استنقص منه فلم يُنقص، وما أشبه ذلك، ولم يغضب، ولم يعاقب، ولم يتنكر من حاله حال، ويستشعر في نفسه أنَّه قد حُفِيَ وأُوحش، وأنَّه لا يقابل ذلك إذا وجد السبيل إليه بمثله، بل يُضمر أنَّه لا يعتد بشيء من ذلك، ويقابل كلاً منه بما هو أحسن وأفضل وأقرب منه إلى البر والتقوى، وأشبه بما يُحمد ويُرضى، ثم يكون في إيفاء ما يكون عليه، كهو في حفظ ما يكون له، فإذا مرض أخوه المسلم عاده، وإن جاء في شفاعة شفَّعه، وإن استمهله في قضاء دين أمهله، وإن احتاج منه إلى معونة أعانه، وإن استسمحه في بيع سمح له، ولا ينظر إلى أنَّ الذي يعامله كيف كانت معاملته إياه فيما خلا، وكيف يعامل الناس، إنَّما يتخذ الأحسن إماماً لنفسه فينحو نحوه ولا يخالفه).
مما خُصَّ به نبينا صلى الله عليه وسلم عن إخوانه السابقين له من الرسل والأنبياء، أنَّ معجزاته لا تزال تتْرى بعد وفاته تصديقاً لختمه للرسل والشرائع السابقات من ذلك بجانب معجزته الكبرى الخالدة القرآن الكريم:
1. تحقق كل ما تنبأ به من الأخبار –أي معجزاته الخبرية-.
2. كرامات أولياء هذه الأمة التي هي امتداد لمعجزاته، لأنها ثمرة لاتباعه والاقتداء به، ولهذا فإنَّ أكبر كرامة في الدنيا هي الاستقامة على أمر الدين.
من تلك المعجزات الخبرية التي تحققت أصدق تحقق، ما رواه عنه الزبير بن العوام رضي الله عنه أنَّه قال: (دَبَّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشو السلام بينكم) 9.
لقد دب هذا الداء العضال، والمرض البطال في الأمة بل استفحل فيها، وعم جميع شرائحها، حيث لم يسلم منه عالم ولاجاهل، ولاقريب ولابعيد، فحل التنافر، والتدابر، والتباغض، والتشاحن، والتهاجر محل المحبة والألفة، والتوادد، والصلة.
وضن كثير من المتباغضين، والمتخاصمين، والمتشاحنين بالسلام على بعضهم البعض، وإنْ مضى على ذلك التخاصم، والتشاحن، والتباغض حين من الزمان، مستنكفين، ومستكبرين، ونافرين عن عامل أساسي في تحقيق الإيمان، ونشر المحبة بين إخوان العقيدة، وعن سبب من أسباب دخول الجنان: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)، فكانوا من أبخل البخلاء بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يبخل بالسلام على إخوانه المسلمين غير المبتدعين ولا الفاسقين المجاهرين بذلك.
علماً بأنَّ السلام من أوجب حقوق المسلم على إخوانه المسلمين، ومن الغريب أنْ يُؤدى هذا الحق للأباعد ويحرم منه الأقارب، ويبذل للمبتدعة والفسقة ويحرم منه الصالحون الأخيار.
لتفشي هذا الداء في مجتمعات المسلمين وجب التنبيه والتحذير منه، وبيان حكمه، والإشارة إلى خطره، وكيفية الخروج منه، مع التمثيل لبعض سلوك السلف الصالح في هذا الشأن، و ما يترتب على عقوبة التخاصم، والتدابر، والتهاجر في الدنيا والآخرة.
فأقول بعد هذا التمهيد في إيجاز:
ã
تعريف التدابر، والتشاحن، والتهاجر 10
التدابر: هو الاعراض عن المسلم بأن يلقاه فيعرض عنه بوجهه، قال مالك: ولا أحسب التدابر إلاَّ الإعراض عن المسلم، يدبر عنه بوجهه.
والتشاحن: هو تغيير القلوب المؤدي إلى أحد ذينك –أي التهاجر والتدابر-.
والتهاجر: أن تهجر أخا مسلماً فوق ثلاثة أيام لغير غرض شرعي.
ã
حكم التدابر والتشاحن والهجر
من كبائر الذنوب سيما بين الأقارب والعلماء، ولو لمدة ساعة إذا التقى فيها المتشاحنان المتهاجران.
قال القاضي عياض رحمه الله: (ولا خلاف أنَّ صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتهامعصية كبرى، والأحاديث تشهد بذلك، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناه ترك المهاجرة وصلتها بالكلام والسلام) 11.
قال ابن حجر الهيتمي في (الزواجر عن اقتراف الكبائر) 12، بعد عده التهاجر والتدابر والتشاحن من الكبائر: (عد هذه الثلاثة هو صريح ما في هذه الأحاديث الصحيحة من الوعيد الشديد، ألا ترى إلى قوله في أول الأحاديث وما بعده: "لم يدخلا الجنة جميعاً أبداً"، وقوله: "فهو في النار"، وقوله: "كسفك دمه"، وقوله: "خارجاً عن الاسلام حتى يرجع"، وقوله: "فمات دخل النار"، وغير ذلك مما مر).
ã
الأدلة على ذلك كثيرة جد منها
من القرآن
(1) قوله تعالى: "الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" 13.
(2) وقوله تعالى: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ" 14.
من السنة
(1) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أنَّ يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" 15.
(2) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات، دخل النار" 16.
(3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتهجَّروا 17، ولاتدابروا، ولا تحسسوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً" 18.
(4) وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكون المسلم أنْ يهجر مسلماً فوق ثلاثة، إذا لقيه سلم عليه مرارٍ، كل ذلك لا يرد عليه، فقد باء بإثمه" 19.
(5) عن هشام بن عامر بن أمية الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أنْ يهجر مسلماً فوْق ثلاثِ ليالٍ، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيئاً يكون سبقه بالفيء كفارة له، فإن سلم فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ، ورد على الآخر الشيطان، فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة أبداً" 20.
(6) وفي رواية لابن أبي شيبة في مصنفه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل أن يصطرما فوق ثلاث، فإن اصطرما فوق ثلاث لم يجتمعا في الجنة أبداً، وأيهما يبدأ صاحبه كُفِّرت ذنوبه، وإن هو سلَّم فلم يرد عليه ولم يقبل سلامه ردَّ عليه الملك، وردَّ على ذلك الشيطان".
(7) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم" 22.
(8) وفي رواية الأدب المفرد للبخاري رحمه الله: (أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه جاء عشية الخميس ليلة الجمعة فقال: أحَرِّج –أي أوقع في الضيق، والاثم، والحرج- على كل قاطع رحم لما قام من عندنا فلم يقم أحد، حتى قالها ثلاثاً. فأتى فتى عمة له قد صرمها 24 منذ سنتين، فدخل عليها، فقالت له: يا ابن أخي ما جاء بك؟، قال: سمعت ابا هريرة يقول كذا وكذا، قالت: ارجع إليه فسله لِمَ قال ذلك؟، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر الحديث).
(9) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابة أصلهم فيقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المَلَّ –الرماد الحار- ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك") 25.
(10) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" 26.
(11) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أطيع الله فيه أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلا قع" 27.
(12) وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع، قال ابن أبي عمر: قال سفيان: يعني قاطع رحم" 28.
(13) وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر أنْ يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" 29.
(14) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلاَّ آتاه الله إياها، أوصرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: "الله أكثر" 30.
(15) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلاَّ رجل كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا" 31.
(16) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" 32.
(17) وعن أبي خراش السُّلَمِي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه" 33.
(18) وعن جابر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس: فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن 34 حتى يتوبوا" 35.
(19) وعنه صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الشيطان قد يئس أنْ يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بهم" 36.
أي بالإغراء، وتغيير القلوب، والتقاطع، والتدابر.
ã
متى يجوز أو يجب الهجر، ولمن؟
هذا النهي والوعيد في هجر المسلم العدل، المستور الحال، أمَّا المبتدع والفاسق المجاهران بالبدعة والفسق، والداعيان لذلك، يهجران ويمقتان ولا كرامة، وكذلك يجوز الهجر من أجل التأديب إن تيقن من جدواه.
قال ابن حجر الهيتمي: (ويستثنى من تحريم الهجر..... مسائل ذكرها الأئمة، وحاصلها أنه متى عاد إلى صلاح دين الهاجر والمهجور جاز، وإلاَّ فلا) 37.
قال ابن مفلح رحمه الله: (فأما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله، فقال ابن عقيل: يكره، وكلام الأصحاب خلافه 38، ولهذا قال الشيخ تقي الدين 39 رحمه الله: اقتصاره في الهجرة على الكراهة ليس بجيد، بل من الكبائر على نص أحمد. الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، وقد صح قوله عليه السلام: "فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار"، وظاهر كلام الأكثر هنا: أنه لا فرق بين ثلاثة أيام أو أكثر.
إلى أن قال: يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية، والقولية، والاعتقادية. قال أحمد في رواية حنبل: إذا علم أنه مقيم على معصية، وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع، وإلاَّ كيف يتبين للرجل ما هو عليه إن لم يكن مُنْكِراً، ولا جفوة من صديق؟.
ونقل المروزي –عن الامام أحمد- يكون في سقف البيت الذهب بجانب 40 صاحبه؟ يجفي صاحبه. وقد اشتهرت الرواية عنه في هجره من أجاب في المحنة 41 إلى أن مات.
وقيل: يجب 42 إن ارتدع به، وإلاَّ كان مستحباً. وقيل يجب هجره مطلقاً إلاَّ من السلام بعد ثلاثة أيام.
وقيل: ترك السلام على من جهر بالمعاصي حتى يتوب منها فرض كفاية، ويكره لبقية الناس تركه، وظاهر ما نقل عن أحمد، ترك الكلام والسلام مطلقاً.
إلى أن قال:
قال القاضي: و روى الخلال عن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً يضحك في جنازة، فقال: أتضحك مع الجنازة؟ لا أكلمك أبداً.
وقال محمد بن كعب القرظي: لا تجالسوا أصحاب القدر ولا تماروهم، وقال سعيد بن جبير لأيوب: لا تجالس طلق بن حبيب فإنه مرجئ.
وقال ابن تميم: وهجران أهل البدع –كافرهم وفاسقهم- والمتظاهرين بالمعاصي، وترك السلام عليهم فرض كفاية، ومكروه لسائر الناس. وقيل لا يسلم أحد على فاسق معلن ولا مبتدع معلن داعية، ولا يهجر مسلماً مستوراً غيرهما من السلام فوق ثلاثة أيام) 43.
وقال البيجاني رحمه الله: ( ولحرمة المسلم على المسلم، وحق كل على أخيه، نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الهجر والجفاء، وإعراض بعضهم عن بعض، ووقت لجواز ذلك عند حاجة تدعو إليه ثلاث ليال فقط، إلاَّ إذا كان من تهجره فاسقاً أو مبتدعاً، واقتضى الهجر إصلاح دينه بتوبته، ورجوعه عما كان عليه، أو التحذير منه، والتنفيرعنه، وجعله عند الناس كالمجذوم، ومن به مرض معدي، ليبتعدوا عنه وليتقوا شره.
وما تسلم الجرباء بقرب سليمة إليها ولكن السليمة تُجرب
وهجر ابن عمر رضي الله عنهما ولداً له حتى مات لظن ابن عمر أنَّه ردَّ حديث رسول الله، وحين تخلف كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهم قادرون على الخروج معه والجهاد في سبيل الله: هجرهم بعدما رجع إلى المدينة نحو خمسين ليلة، وكان ذلك بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وتركهم القريب والبعيد من المسلمين حتى أهلهم وزوجاتهم.
وتلك سنة نبوية أريد بها التنفير عن السيئين، وهجرالأمة للمجرمين، حتى يكفوا عن جرائمهم، ويتوبوا إلى الله عن سيئاتهم) 44 .
يستثنى من هجر العدول المستورين من يأتي:
أولاً: هجر القريب لقريبه، والصاحب لصاحبه إذا قصر في حقه، وهذا لا ينبغي أن تتجاوز مدة الهجر فيه الثلاثة أيام، فقد رخص الهجر في هذه المدة مراعاة لطبيعة النفوس البشرية.
ثانياً: هجر التأديب للزوجة والأبناء والأقرباء: وهذا ليس له مدة محدودة، لكن لابد من مراعاة المصلحة منه، فإن غلب على الظن أنه يجدي ويؤثر جاز، وإلاَّ لا يفعل والله أعلم.
ثالثاً: هجر المبتدع والفاسق المجاهرين بذلك الداعيين، وهذا حكمه الوجوب لمن قدر عليه، ويُراعى في هجر المبتدع والفاسق المصلحة والمفسدة، وإلاَّ يمكن أنْ يُهجرا إلى الموت.
ã
بم يزول هجر المسلم المستور الحال؟
لأهل العلم أقوال في ذلك يزول الهجر ويخرج من القطيعة ب:
(1) السلام.
(2) بالسلام والكلام.
(3) إن يعودا إلى حالتهما قبل الهجر والقطيعة.
قال ابن مفلح رحمه الله تحت فصل: (في زوال الهجر بالسلام): (والهجر المحرم يزول بالسلام، ذكره في (الرعاية 45) و(المستوعب 46)، وزاد: ولا ينبغي له أن يترك كلامه بعد السلام عليه، ثم قال في (المستوعب): والهجران الجائز هجر ذوي البدع أو مجاهر بالكبائر.
إلى أن قال: وروى أبو حفص عن أبي هريرة مرفوعاً: (السلام يقطع الهجران) 47، وذكر النووي رحمه الله: أن مذهب مالك والشافعي ومن وافقهما: يزول الهجر المحرم بالسلام).
وقال أحمد وابن القاسم المالكي: إن كان يؤذيه لم يقطع السلام هجرته، انتهى كلامه.
وقال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن السلام يقطع الهجران؟، فقال: قد يسلم عليه، وقد صد عنه، ثم قال أبو عبد الله: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا"، فإذا كان قد عوده أن يكلمه أو أن يصافحه 48، ثم قال في قصة كعب بن مالك حين خاف عليهم، ولم يدر ما يقول فيهم: "لا تكلموهم"، قيل لأبي عبد الله: عمر قال في (صبيغ): لا تجالسوه، قال: المجالسة الآن غير الكلام، قلت لأبي عبد الله: كان لي جار يشرب المسكر، أسلم عليه؟ فسكت، وقد قال في بعض هذا الكلام: لا تسلم عليه ولا تجالسه.
قال القاضي 49: في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): ظاهر كلام أحمد أنه لا يخرج من الهجرة بمجرد السلام، بل يعود إلى حاله مع المهجور قبل الهجرة. وذكر رواية الأثرم، وقول أحمد في رواية محمد بن حبيب، وقد سئل عن الرجل لا يكلم: أيجزيه السلام من الصرم؟ قال: أتخوف من أجل أنهما يصد أحدهما عن صاحبه، وقد كانا متآنسين يلقى أحدهما صاحبه بالبشر، إلاَّ أن يتخوف منه نفاقاً. قال: وإنما لم يجعله أحمد خارجاً من الهجرة بمجرد السلام، حتى يعود إلى عادته معه في الاجتماع والمؤانسة، لأن الهجرة لا تزول إلاَّ بعوده إلى عادته معه، انتهى كلام القاضي) 50.
الذي يظهر أنَّ السلام وحده لا يزيل الهجرة، لأنه قد يكون من باب أداء الواجب إلاَّ إذا اقترن بالكلام، والأولى عودة المتهاجرين إلى حالهما الأولى، والله أعلم.
إذا كان هذا الوعيد في هجر المسلم لأخيه المسلم في الظاهر فكيف بالهجر الباطني؟، لا شك أنَّه أشد حرمة، واغلظ عقوبة منه.
ã
التشاحن، والتباغض، والتهاجر تتأكد حرمة كل منها، ويعظم جرمها في حالين
أولاً: إذا كان بين العلماء والدعاة بعضهم مع بعض، وذلك لعلمهم بخطورته، وإحاطتهم بالتحذير منه، ولتعدي ضرره على الأتباع.
ثانياً: إذا كان بين الأقارب وذوي الأرحام، وذلك لأن ذوي الأرحام بعضهم أولى ببعض، هذا بجانب ما ينضاف إليه من قطيعة الرحم التي يجب أن توصل .
قال البيجاني: (ويؤسفنا 51 والله ما نراه اليوم منذ أزمنة بعيدة، بين علماء الدين وحملة الشريعة من الهجر، والنفرة، وهم يعلمون إثم ذلك، وما يجره على الأتباع من الويل والشرور، فقد جعلوا تلاميذهم ومن يأتم بهم فرقاً وأحزاباً، وصيروهم أعداءً يلعن بعضهم بعضاً، ويحكم هذا بكفر هذا، ويضلل الجاهل منهم العالم، ولا ينظر إليهم إلاَّ شزراً "وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم" 52.
وهم يعرفون النتيجة الحتمية لاختلاف الخاصة، وتعصب العامة، وهم يحذرون الناس من الذي وقعوا فيه، والعيب أن تأمر ولا تأتمر، أو تنهي ولا تنتهي، ولاعذر ولا مبرر للعلماء في اختلافهم على أنفسهم، وتلاعبهم بعقول من يعتقد فيهم الخير، ويحسن بهم الظن، إلاَّ طغيان المادة على أنفسهم، والحسد الذي يأكل قلوبهم، ويحملهم على الحط من قدر فلان، ونسبة كل عيب إليه، وهم يعلمون طهره وجلالة قدره) 53.
ã
مخاطر التشاحن والتهاجر والتدابر في الدنيا والآخرة
لا شك أنَّ مخاطر هذا السلوك اللئيم، والخلق غير الكريم كثيرة جداً، منها ماهو كائن في هذه الحياة الدنيا، هذا بجانب ما يدخر له من الحرمان والعذاب المهين في الدار الآخرة.
من تلك المخاطر ما يأتي:
(1) لا ترفع أعمال المتخاصمين حين ترفع أعمال الخلائق أجمعين.
(2) يعجل مقت الله في هذه الحياة الدنيا، ويمحق الأرزاق، ويرفع البركات.
(3) مؤذن بخراب الديار.
(4) يمنع من دخول الجنة مع أول الداخلين، إنْ كان المتشاحنون من أهل التوحيد.
ã
نماذج ينبغي أنْ تُحتذى في المبادرة إلى الصلح والخروج من القطيعة
أود أن أختم هذا البحث بمبادرتين خيرتين من صحابيين جليلين هما:
(1) عبد الله بن الزبير مع خالته عائشة رضي الله عنهما.
(2) والحسن بن علي مع أخيه الحسين رضي الله عنهما.
عن عوف بن مالك بن الطفيل بن الحارث –وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها-: (أنَّ عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عليَّ نذر أنْ لا أكلم ابن الزبير أبداً.
فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا، والله لا أشفع فيه أبداً، ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلَّم المِسْوَر بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث -وهما من بني زهرة-، وقال لهما: أنشدكما بالله لَمَا أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل المِسْور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت: نعم، ولا تعلم أنَّ معهما ابن الزبير، قالا: كلنا؟، قالت: نعم، فلما دخلوا، دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المِسْور وعبد الرحمن يناشدانها إلاَّ ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عمَّا قد علمت من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، واعتقت في نذرها أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها) 54.
وعن أبي الحسن المدائني قال: (جرى بين الحسن بن عليّ وأخيه الحسين كلام تهاجرا بسببه، فلما أتى على الحسن ثلاثة أيام من هجر أخيه، أقبل على الحسين وهو جالس، فأكب على رأسه فقبله. فلما جلس الحسن، قال له الحسين: إنَّ الذي منعني من ابتدائك والقيام إليك أنك أحق بالفضل مني، فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به) 55.
قلت: هجر عائشة لابن أختها، ابن الزبير كان من باب التأديب.
ختمت بهذين الأثرين لعله يكون فيهما موعظة، وقدوة للمتشاحنين، المتخاصمين، المتهاجرين، فيبادروا بالصلح، ويساروا إلى المصافاة والمعافاة.
اللهم ألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وجنبنا المشاحنة، والمقاطعة، والخصام، وصلي الله وسلم على خير الأنام، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم الكرام.
ã
وكتبه الأمين الحاج محمد أحمد رئيس الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان

No comments: