Friday, March 12, 2010

علامات أهل السنة

الأولى: الالتزام بالكتاب والسنة

الثانية: الاشتغال بطلب العلم الشرعي

الثالثة: وصف الله عز وجل بكل ما وصف به نفسه

الرابعة: الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق

الخامسة: الإيمان قول وعمل واعتقاد

السادسة: الإيمان بعلم الله وقضائه وقدره

السابعة: الحكم على الناس بما ظهر منهم

الثامنة: لا ننزل أحداً من أهل القبلة الموحدين جنة ولا ناراً

التاسعة: الإيمان بالحساب، والحوض، والميزان، والصراط، والجنة، والنار

العاشرة: الإيمان بعذاب القبر

الحادية عشرة: الإيمان بالشفاعة

الثانية عشرة: الإيمان برؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الثالثة عشرة: خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين هم الصحابة

الرابعة عشرة: لا ينتقص أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الخامسة عشرة: السكوت عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

السادسة عشرة: الصحابة كلهم عدول

السابعة عشرة: المحافظة على صلاة الجماعة

الثامنة عشرة: الصلاة خلف كل مسلم مستور الحال

التاسعة عشر: الصلاة على كل مسلم مستور الحال

العشرون: الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة مع كل بر وفاجر

الحادية والعشرون: عدم التكفير بكل معصية

الثانية والعشرون: إكفار من أكفره الله ورسوله

الأدلة على أن الكفر الأكبر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي

الثالثة والعشرون: طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليهم

الرابعة والعشرون: حب العرب والعربية، ونبذ الشعوبية والعنصرية

الأدلة على فضل جنس العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم

الخامسة والعشرون: هجر أهل الأهواء

السادسة والعشرون: إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها

السابعة والعشرون: الخوف والحذر من البدع والمحدثات

آثار وردت في ذم البدع والنهي عن مداخلة أصحابها والغضب عليهم

أخطر الأهواء

الثامنة والعشرون: العمل بأحاديث الآحاد واعتقاد أنها تفيد العلم القطعي والعمل

التاسعة والعشرون: الحذر من الخصومات في الدين، والجدل، والمراء

الثلاثون: حب العلماء وعدم تتبع زلاتهم والحرص على عدم انتقاصهم

نماذج من توقير السلف لعلمائهم

الحادية والثلاثون: النصح لكل مسلم

الثانية والثلاثون: الوسطية

خاتمة



إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وترك أمته على المحجة البيضاء والحنيفية السمحة، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه االله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن قومه، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



السنة هي الإسلام، هي الشريعة، هي الدين، هي الصراط المستقيم، والنهج القويم، وأهلها هم أهل الإسلام والإيمان، هم السواد الأعظم، هم الجماعة، هم الأمة الوسط، هم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، هم نقاوة المسلمين، هم أهل الحديث والآثار، ولهذا ما من فرقة أوطائفة من طوائف أهل القبلة إلا وهي تدَّعي الانتساب إليها، وتتشرف بالانتماء إليها بلسان المقال، حتى المارقة منها.



وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك



لكن هذا الادعاء والانتساب سرعان ما يكذبه لسان الحال، حيث ميَّز الله أهل السنة والجماعة بميزة فريدة هي الاتباع والاقتداء والتأسي برسول الإسلام وصحابته الكرام، حتى قال رسوله صلى الله عليه وسلم في افتراق الأمة كما صح عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعانه: "افترقت اليهود على إحدى أواثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أواثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة"، فقيل: ما الواحدة؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم".1



وبعد..



فلأهل السنة علامات وصفات مجمع عليها، ذكرها أئمة أهل السنة الأقدمون منهم والمحدثون في مؤلفاتهم، وهي من المسلمات التي لا يجادل فيها أحد، نود ذكر طائفة منها حتى يعلم المدعون أين موقفهم منها، ويتذكر الغافلون من أتباعها ما نسوه منها، وليحذروا من تلبيس الملبسين.



والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي أمرنا ربنا بطاعته في كل صغير وكبير، وحقير وجليل، من غير قيد ولا شرط، حيث قال: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"2، ولم يوجب علينا طاعة أحد في كل ما يقول سواه، مهما كانت منزلته، وحذرنا من تقليد ديننا الرجال، ورحم الله مالكاً وغيره حيث قالوا: "كل يؤخذ من قوله ويُترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم".



والعلامات، بعد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر، واتباعه في ما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، هي:



الأولى: الالتزام بالكتاب والسنة

الالتزام بكتاب الله، وبما صحَّ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة، لا يحيد عن ذلك، ويدور مع الدليل حيث دار.





الثانية: الاشتغال بطلب العلم الشرعي

الاشتغال بطلب العلم الشرعي، لعلمه أن العلم قائد والعمل تبع له: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"3، وأن عملاً قليلاً في سنة خير من كثير في بدعة.





الثالثة: وصف الله عز وجل بكل ما وصف به نفسه

يصف الله عز وجل بكل ما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الخلق به، من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وأن يمر آيات وأحاديث الصفات كما جاءت، ورحم الله مالكاً عندما قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر بالمعتزلي أن يخرج من مجلسه.





الرابعة: الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق

الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، قال تعالى: "وكلم الله موسى تكليماً"4، وقال: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللهُ"5، وقال: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله".6



قال أحمد رحمه الله: (والقرآن كلام الله تكلم به، ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل: ليس بمخلوق، فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم).7



وعندما قال حفص المنفرد المعتزلي للشافعي: القرآن مخلوق؛ قال له الشافعي: كفرتَ وربِّ الكعبة.





الخامسة: الإيمان قول وعمل واعتقاد

الإيمان قول وعمل واعتقاد، قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والآثام، وأن أعمال القلوب والجوارح من الإيمان، ولهذا يعرفه بعضهم بأنه: قول وعمل ونية.



وقد حكى غير واحد من أهل العلم إجماع الصحابة، والتابعين، والفقهاء، والمحدثين على ذلك، منهم على سبيل المثال: الشافعي، والبغوي، وابن عبد البر، رحم الله الجميع.



قال أحمد رحمه الله: (ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو قول والأعمال شرائع فهو مرجئ).8





السادسة: الإيمان بعلم الله وقضائه وقدره

الإيمان بعلم الله وقضائه وقدره، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله خلق العباد وأعمالهم: "والله خلقكم وما تعملون"9، وأن العبد مسؤول عن أفعاله الاختيارية ومجازى عليها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأنه لا حجة لأحد في قدر الله في ارتكاب المعاصي.



وأن إرادة الله نوعان: شرعية، وهي شاملة للأمور التي أرادها الله وأحبها، وهي الطاعات والقربات؛ وكونية، وتشمل المعاصي وعمارة الكون.



فالكفر والشرك كله بإرادة الله الكونية، لأنه لا خالق إلا الله.



ومن زعم أن الإنسان خالق لفعله فقد أثبت للعالم خالقان، وهذه عقيدة المجوس.





السابعة: الحكم على الناس بما ظهر منهم

الحكم على الناس بما ظهر منهم، أما نياتهم وسرائرهم فلا يطلع عليها إلا علام الغيوب، فمن أظهر خصيصة من خصائص الإسلام حكمنا بإسلامه.





الثامنة: لا ننزل أحداً من أهل القبلة الموحدين جنة ولا ناراً



لا ننزل أحداً من أهل القبلة الموحدين جنة ولا ناراً ولا نشهد لأحد بذلك إلا من شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كانت شهادة خاصة كشهادته للعشرة المبشرين بالجنة، وخديجة، وبلال، وعكَّاشة بن محصن، والحسن، والحسين، وغيرهم كثير، أوكانت شهادة عامة لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكلاً وعد الله الحسنى"10، والحسنى هي الجنة، إذ لا يوجد شيء أحسن منها إلا رؤيا المؤمنين لربهم ومولاهم في الجنة.





التاسعة: الإيمان بالحساب، والحوض، والميزان، والصراط، والجنة، والنار

الإيمان بالحساب، والحوض، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، كما صحت بذلك الأخبار عن الله ورسوله.





العاشرة: الإيمان بعذاب القبر

الإيمان بعذاب القبر – أعاذنا الله وإياكم منه – فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أوحفرة من حفر النار، وأنه حسي ومعنوي، يصيب الجسد والروح معاً، والله قادر أن يوصله لأي ميت قبر أم لم يُقبر، أكلته السباع أوأحرق بالنار.





الحادية عشرة: الإيمان بالشفاعة

الإيمان بالشفاعة في الآخرة لنبينا ولغيره من الأنبياء، والملائكة، والرحم، والقرآن، والمؤمنين، يتمتع بها من مات لا يشرك بالله شيئاً، ولها شرطان:



1. إذن الرب للشافع.



2. ورضاه عن المشفوع له.



قال تعالى عن الكفار والمشركين: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين".11



ولرسولنا سبع شفاعات، هي:



1. الشفاعة الكبرى لأهل المحشر.



2. شفاعته لأهل الكبائر في الخروج من النار.



3. شفاعته لأهل الجنة في دخولها.



4. شفاعته في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.



5. شفاعته في سبعين ألف من أمته مع كل ألف سبعون ألف.



6. شفاعته لمن دخل الجنة أن يرفعوا إلى درجات عليا.



7. شفاعته لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه، وليس بخروجه من النار.



وكل هذه الأنواع ثابتة بالكتاب والسنة.





الثانية عشرة: الإيمان برؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الإيمان برؤية المؤمنين لربهم في الجنة، حين يحجب عن ذلك الكافرون: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"12، "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون".13



وفي الحديث الصحيح: "إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فيه"14.



متعنا الله وإياكم برؤياه، وحشرنا في زمرة أوليائه.





الثالثة عشرة: خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين هم الصحابة

خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين هم الصحابة المهديون، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذين شهد القرآن والكتب السماوية بفضلهم، ونطقت السنة المطهرة بما تميزوا به عن غيرهم: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار".15



وقال صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث.16



قال ابن مسعود رضي الله عنه في مدح الصحابة وبيان فضلهم على من بعدهم، حاضاً على التأسي والاقتداء بهم، واتخاذهم القدوة المثلى والأسوة الحسنة: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها خلالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم).



وقال الشافعي في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن الزعفراني، وهذا لفظه17 : (قد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك بلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً، وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى، أوحكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إذا اجتمعوا، أوقول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله).



وإن أفضل الصحابة هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولهذا روي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: (من قدم علياً على أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وأخشى أن لا يقبل له عمل).





الرابعة عشرة: لا ينتقص أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الصحابة رضوان الله عليهم بشر غير معصومين، تجوز عليهم الكبائر والصغائر، مع ندرة حدوث ذلك منهم، وسابق مغفرته وتجاوزه عنهم: "ما ضرَّ عثمان بعد اليوم"، "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ"، "من يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم".



حكم سب وانتقاص الصحابة منه ما هو كفر، نحو:



1. وصف جميعهم أومعظمهم بالكفر، والردة، والفسق، والتضليل.



2. تضليل وتكفير الخلفاء الراشدين.



3. اتهام عائشة بما برأها الله منه.



ومن صدر منه شيء من ذلك فقد كفر، وحكمه القتل.



أما من انتقصهم أوبعضهم بما دون ذلك نحو البخل وسوء التدبير فهو فاسق، وعقوبته أن يُعزر ويؤدب بما يناسبه، ويوقف غيره عند حده.



قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: "من سب أبابكر وعمر قتل، ومن سب عائشة رضي الله عنها قتل، لأن الله تعالى يقول فيها: "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين"18 ، فمن رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل".19



وقال مرة: "من سب أبابكر جلد ومن سب عائشة قتل"، قيل له: لِمَ؟ قال: "من رماها فقد خالف القرآن".



مراده في هذه الرواية والله أعلم أن من سب أبابكر بغير الكفر والتضليل، أما من رماه بالكفر والتضليل وتحريف الكتاب العزيز فلا شك في كفره عند مالك ولا غيره.



بل ذهب مالك إلى تكفير وتضليل كل من أصبح وفي قلبه غل على أي فرد من آحاد الصحابة، فكيف بسادتهم وكبرائهم؟



جاء في تفسير قوله تعالى: "ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا"20 عن الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وما أحسن ما استنبطه الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة، أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم").21



روى ابن أبي زيد عن سُحنون قال: "من قال في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد".22



وقال الهيثمي: (الخلاف فيمن سب بعضهم، أما سب جميعهم فلا شك أنه كفر).23



وقال البغدادي: (وقالوا بتكفير كل من أكفر واحداً من العشرة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقالوا بموالاة جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأكفروا من أكفرهن، أوأكفر بعضهن).24



وقال القاضي عياض: (وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب الجمور أنه يعزر لا يقتل).25



هذا إن سبهم من غير تضليل أوتكفير.



وقد صح عن أنس عند الشيخين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"، وفي رواية: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق"، وقد ضرب عمر بالدرة من فضَّله على أبي بكر، ثم قال: "أبوبكر خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا"، وقال: "من قال غير هذا أقمنا عليه ما يقام على المفتري"26.



وقال علي كذلك: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري".27



بل لا ينبغي لأحد أن يفضل تابعياً مهما كانت منزلته ومكانته ولو كان عمر بن عبد العزيز على أحد من الصحابة.



فقد أنكر التابعي الجليل يزيد بن الأسود على من فضل عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقال: "لمداد في ثوب معاوية – لأنه كان من كتاب الوحي – خير من ملء الأرض من عمر بن عبد العزيز"، وفي رواية: لشعـرة في أنف معاوية خير من ملء الأرض من عمر بن عبد العزيز".



وقال هارون الحمَّال: سمعتُ أحمد بن حنبل وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله: إن هاهنا رجلاً يفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان، فقال أحمد: "لا تجالسه، ولا تؤاكله، ولا تشاربه، وإذا مرض فلا تعده").28



فقد صدقا، فإن الله اختار أصحابه لنبيه اختياراً، وشرفهم بالنظر إليه والجهاد معه، فلا يمكن لأحد أن يدانيهم أبداً.





الخامسة عشرة: السكوت عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

من علامات السني التي تميزه عن البدعي عدم الخوض فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدوتهم في ذلك ابن عمر، وقد كان شاهداً ومعاصراً لتلك الأحداث، ومع ذلك كان إذا سئل عنها قال: "تلك فتنة طهر الله منها أيدينا وسيوفنا، ولا نريد أن نخوض فيها بألسنتنا".



والخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الذي كان يقول إذا سئل عنها: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".



ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: الأخبار التي وردت في الفتن جلها كذب، وبعضها زيد فيه ونقص، وما صح منها فالصحابة فيه مجتهدون مأجورون، إما أجراً واحداً وإما أجرين.



أخرج الطبراني في الكبير29 وأبو نعيم في الحلية30 عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا".31



يقول أبونُعَيْم: (فالإمساك عن ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر زلاتهم، ونشر محاسنهم ومناقبهم، وصرف أمورهم إلى أحسن الوجوه، من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان، الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان".



إلى أن قال:



لم يأمرهم بالإمساك عن ذكر محاسنهم وفضائلهم، إنما أمروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في ثورة الغضب وعارض الموجدة).32



كان عدد الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وظهور الخلاف عشرة آلاف، فما شارك في الفتنة سوى أربعين أوثلاثين.



قال محمد بن سيرين رحمه الله: (هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين).33



أي كل الذين كانوا مع علي، ومعاوية، وعائشة، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم جميعاً لم يزد عددهم على الثلاثين، وما كان أحد منهم يريد القتال، ولكن مؤججي الفتنة في كل فريق كانوا هم السبب في حدوث القتال وإراقة الدماء.



وكان الجميع مجمعين على تقديم علي وعلى أفضليته، ولم يكن هدفهم منازعته، ولكنهم طالبوه بالقصاص من قتلة عثمان، وأن يسلمهم إليهم، وكان علي يرى أن يدخلوا أولاً في بيعته، ثم بعد ذلك يتعاون الجميع في الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه.



فالكل مجتهد، والكل مأجور إن شاء الله، وإن كان الحق مع علي رضي الله عنه.



فعائشة رضي الله عنها لم تخرج طالبة زعامة، وإنما خرجت تريد الصلح بين الفريقين، وقد أشار عليها بذلك مروان بن الحكم.



يقول عمر بن شبة: (إن أحداً لم ينقل عن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا ادعوا أحداً ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان، وترك الاقتصاص منهم).34



وكانت عائشة رضي الله عنها بعد إذا ذَكَرَت خروجها أوذُكِّرَت به تبكي حتى تبل خمارها.



وذكر الذهبي رحمه الله: (أن أبا مسلم الخولاني وأناساً معه جاءوا إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمته، والطالب بدمه، فأتوه فقولوا له، فليدفع إليَّ قتلة عثمان، وأسلم له؛ فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفع إليه).35



وفي رواية عند ابن كثير في "البداية والنهاية"36: (فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية).



قلت: ما كان في مقدور علي رضي الله عنه في ذلك الوقت أن يسلم إليهم قتلة عثمان أوأن يقتص منهم، لأن عثمان قتل في فتنة، ونفس الذين قتلوا عثمان بايعوا علياً، وكانت لهم شوكة ومنعة، بدليل أن معاوية رضي الله عنه والذين جاءوا من بعده لم يتمكنوا من الاقتصاص من قتلة عثمان.



الخوض والبحث والتفتيش في الفتنة التي حدثت بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه لا فائدة منه، لأسباب هي:



أولاً: نحن غير مسؤولين عن ذلك.



ثانياً: البحث والتفتيش عن ذلك يحتاج إلى جهد وإلى تثبت وتحقق من نقلة أخبارها وهذا أمر عسير.



ثالثاً: جل المصادر التي أرخت لذلك قديماً وحديثاً مصادر مشبوهة لها غرض في تزييف الحقائق وتزويرها.



يقول الإمام أبوبكر بن العربي في كتابه القيم: "العواصم من القواصم"37 محذراً من بعض المؤرخين والأدباء وحتى بعض المفسرين: (إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين، والمؤرخين، وأهل الأدب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أوعلى بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري38، وغير ذلك الموت الأحمر، والدواء الأكبر).



ومما تجدر الإشارة إليه التحذير من كتب بعض المحدثين أمثال النصراني الماروني جورجي زيدان وطه حسين، وغيرهما كثير.





السادسة عشرة: الصحابة كلهم عدول

من علامات أهل السنة المميزة لهم عن أهل الأهواء اعتقادهم في عدالة جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، فقد اختارهم الله اختياراً لصحبة نبيه، ونقل دينه، والمحافظة عليه، ولله در أبي زُرعة الرازي المتوفى 264ﻫ حين قال: (إذا رأيتَ الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجَرْح بهم أولى وهم زنادقة).39



فالرافضة مثلاً لا يعتمدون رواية أحد من الصحابة إلا أولئك الذين وقفوا مع علي رضي الله عنه، وكان عددهم لا يزيد على سبعة عشر صحابياً.



والمعتزلة يردون من الأحاديث ما لا تهواه عقولهم، وهكذا.



وإذا كان الإمام أحمد رحمه الله وصف رجلاً بأنه زنديق لأنه نال من أصحاب الحديث ممن هم دون الصحابة بكثير، فكيف بمن يجرح وينتقص الصحابة الكرام؟



(قال أحمد بن الحسن: يا أبا عبد الله، ذكروا لابن قتيلة بمكة أصحاب الحديث، فقال: أصحاب الحديث قوم سوء؛ فقام أبو عبد الله – أحمد بن حنبل – وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق؛ ودخل بيته).40





السابعة عشرة: المحافظة على صلاة الجماعة

من علامات أهل السنة أداء الصلوات المكتوبة مع جماعة المسلمين في المساجد، وعدم التخلف عن ذلك إلا لعذر شرعي، لقوله عز وجل: "واركعوا مع الراكعين"41، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة".42



ولما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه: "من سرَّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليؤد هذه الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو صليتم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنن نبيكم، ولو تركتموها لضللتم، وقد كان يؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين ليوضع في الصف، وما كان يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".



فالجماعة حكمها الوجوب في الصلوات المكتوبة على الرجال البالغين العاقلين في أرجح قولي العلماء، ومنهم من قال: إنها من آكد السنن.



فتخلف الرجل عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، سيما صلاتي الصبح والعشاء، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "إذا فقدنا الرجل في العشاء والصبح أسأنا به الظن – أن يكون قد نافق"، ويصدق ذلك قوله: "إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً".43





الثامنة عشرة: الصلاة خلف كل مسلم مستور الحال

لعلمهم بوجوب الجماعة فإنهم يصلونها خلف كل مسلم مستور الحال.



قال القحطاني رحمه الله:



قم للصلاة الخمس واعرف حقها فلهن عند الله أعظــم شان



مع كل بر صلهـا أو فاجــر مـا لم يكن في دينه بمُشان



فالصلاة لا تصح خلف الكافر، أوالمشرك، أوالمبتدع بدعة كفرية مجاهراً بها؛ رضي الله عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، حيث كانوا يصلون خلف الحجاج، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وغيرهما من الأمراء، خوف حدوث الفتنة والاختلاف، مع تأخيرهم لها أحياناً، ودنو حالهم عن حال أولئك الصحابة الأخيار.



عندما حُصر عثمان رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين ومنع من أن يؤم الناس، وقدِّم أحد رؤوس الفتنة، سأل عثمانَ بعضُ الناس قائلاً: نصلي خلف هذا، وأنت إمامنا محصور؟ فقال: "الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإن أحسنوا فأحسنوا معهم".



وكان ابن عمر رضي الله عنهمـا وهو شيخ الصحابة في وقته، عندما كان الحجـاج محاصـراً لابن الزبير رضي الله عنهما في الكعبة، إذا سمع أذان الحجاج أولاً ذهب وصلى معه، وإذا سمع أذان ابن الزبير أولاً ذهب فصلى معه، وقيل له أتصلي خلف الحجاج؟ قال: "من قال: حي على الصلاة حي على الفلاح أجبناه، ومن قال: حي على قتل أخيك المسلم لم نجبه".



وصلى مرة ابن مسعود رضي الله عنه خلف الوليد بن عقبة عندما كان أميراً على العراق، وكان شارباً للخمر، ولم يعلموا بذلك، فصلى بهم الصبح أربع ركعات، ثم التفت إليهم قائلاً: يكفي أم أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: "يكفي، ما زلنا معك منذ الصبح في زيادة".



هذا على الرغم من أن ما رُفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "صلوا خلف كل بر وفاجر، وجاهدوا مع كل بر وفاجر" ضعيف44 كما قال أهل العلم المختصون بذلك، وإن صحَّ معناه.



فقد صحح الصلاة خلف الفسقة غير المجاهرين بفسقهم وفجورهم جمهور أهل العلم، ولم يأمروا بإعادتها بل بدَّعوا من أعادها.



وعدَّ أهل السنة إقامة جماعتين في المسجد الواحد بسبب الإحن والضغائن من أخطر البدع، وشنعوا وأبطلوا صلاة المخالفين.



ومن العجيب الغريب أن يكون المخالفون هم من أهل البدع المجاهرين ببدعتهم، والمعترَض عليهم من أهل السنة الذين لا ينبغي أن يتقدم عليهم أحد، ولكن كما قيل: "رمتني بدائها وانسلت".



أما نهيه صلى الله عليه وسلم أن يؤم الرجل القوم وهم له كارهون، أوبعضهم كاره له، فالمراد بذلك الكراهية بسبب البدع والفسوق، وليس من أجل الاقتداء بالسنة والتأسي بالسلف الصالح.





التاسعة عشر: الصلاة على كل مسلم مستور الحال

من علامات أهل السنة أنهم يرون الصلاة على كل من مات من المسلمين إلا على الكفار، والمشركين، والمنافقين نفاق الاعتقاد، وأصحاب البدع الكفرية المجاهرين ببدعهم الداعين لها، فهؤلاء لا يُصلى عليهم ولا كرامة.



أما أهل البدع والفسق والفجور غير المجاهرين، نحو من قُتِل في حد في من حدود الله، ومن قَتَل نفسه، والبغاة، فهؤلاء يعتزل الصلاة عليهم أهل الفضل والصلاح، ويصلي عليهم بعضُ المسلمين، فصلاة الجنازة من فروض الكفاية، فإذا قام بها البعض ولو واحد سقط عن الباقين الإثم.



ولا يجوز أن يدفن مسلم من غير أن يُصلى عليه.



قال ابن عبد البر رحمه الله: (وقال مالك في آخر هذا الباب45: لم أر أحداً من أهل العلم يكره أن يصلى على ولد الزنا وأمه، وهذا ما لا أعلم فيه خلافاً من العلماء.



وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ولد زنا وأمه ماتت من نفاسها.



وقال أبو وائل: يصلى على كل من صلى إلى القبلة.



وسئل أبو أمامة عن الصلاة على جنازة شارب الخمر؟ قال: نعم، إذا شهد بشهادة الحق.



وذكر أبوبكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر قال: سألته عن المرأة تموت في نفاسها من الفجور أن يصلى عليها؟ فقال: صلِّ على من قال: لا إله إلا الله.



قال: وحدثنا جرير عن مغبرة عن حماد عن إبراهيم قال: يصلى على الذي قتل نفسه، وعلى النفساء من الزنا، وعلى الذي يموت غريقاً من الخمر.



قال: وحدثنا أبو خالد الأحمر عن عثمان بن الأحمر عن عطاء قال: تصلي على من صلى إلى قبلتك.



وقال: وحدثنا عبد الله بن إدريس عن هشام عن ابن سيرين قال: ما أعلم أحداً من الصحابة والتابعين ترك الصلاة على أحد من أهل القبلة آثماً.



وقال ابن عبد الحكم عن مالك: لا تترك الصلاة على أحد مات ممن يصلي إلى القبلة.



وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء: يصلى على كل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.



وكره مالك من بين سائر العلماء أن يصلي أهل العلم والفضل على أهل البدع).46



قال البسام ملخصاً مذاهب أهل العلم فيمن لا يصلى عليه: (وذهب الأحناف إلى أن أربعة لا يصلى عليهم، وهم:



1. البغاة الذين خرجوا عن طاعة الإمام بغير حق.



2. قطاع الطرق الذين يسلبون المارة أموالهم.



3. العصبة المتعاونة على ظلم العباد بقهرهم وغصبهم.



4. المكابرون بالمدن والقرى بالسلاح فهو من الحرابة وقطع الطرق.



فهؤلاء لا يغسلون ولا يصلى عليهم إهانة لهم، وزجراً لغيرهم.



• وذهب المالكية إلى أن الإمام لا يصلي على من قتل في حد أوقصاص، ودليلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه.



• وذهب الشافعية إلى الصلاة على كل مسلم مهما كان عصيانه وفسقه.



قال النووي في شرح المهذب: المرجوم في الزنا، والمقتول قصاصاً، والصائل، وولد الزنا، والغالّ من الغنيمة، ونحوهم، يُغسلون ويصلى عليهم بلا خلاف عندنا، ودليلهم ما ثبت في مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المرجوم في الزنا"، وفي البخاري من رواية جابر أنه صلى الله عليه وسلم: "صلى على ماعز بعد أن رجمه".



قال البيهقي: تشرع الصلاة على كل بر وفاجر، وعلى كل من قال: لا إله إلا الله، وكل ما خالف ذلك فأحاديثه ضعيفة.



• وذهب الحنابلة إلى الصلاة على كل مسلم عاصٍٍ إلا الغال من الغنيمة، وقاتل نفسه، فلا يصلي عليه الإمام ونائبه، عقوبة له وزجراً لغيره، ويصلي عليهما غير الإمام.



أما دليلهم: فقاتل نفسه، فيما جاء في مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه فلم يصل عليه".



وأما الغالّ فما رواه الخمسة عن زيد بن خالد: "أن رجلاً من جهينة قُتِل يوم خيبر، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم، فإنه غلَّ في سبيل الله".



قال الإمام أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا الغالّ، وعلى قاتل نفسه.



قال ابن القيم: وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلي على من قتل نفسه ولا على الغالّ.



قال محرره47: ومذهب الحنابلة هو أرجحها وأحقها دليلاً، فالعصاة على اختلافهم هم أحق بالصلاة وشفاعة المسلمين، ولكن خصَّ هذان بالدليل، وما عداهما فعلى أصل عموم الحكم في صلاة الجنازة، والله أعلم).48



الراجح والله أعلم جواز الصلاة على كل مسلم مستور الحال، إلا المجاهرين ببدعهم وفسوقهم، فهؤلاء لا يصلى عليهم، سيما أهل العلم والفضل.



كان عمر رضي الله عنه لا يصلي على المنافقين نفاق الاعتقاد، وكان إذا مات من يشك فيه أرسل إلى حذيفة يسأله هل هو منافق أم لا؟ وكان حذيفة يخبره أولاً ثم أمسك عن ذلك، فكان عمر يرسل غلامه، فإن خرج حذيفة خرج عمر، وإن لم يخرج حذيفة لم يخرج عمر رضي الله عنهما.



لقد تساهل الناس في هذه الأزمنة في الصلاة على أئمة البدع والفجور، حتى أضحت جنائزهم تضاهي جنائز أئمة أهل السنة، حيث قال أحمد رحمه الله: بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز؛ أما اليوم فيوم الجنائز ليس فارقاً بين السني والمبتدع، فكم رأينا تدافع الخلق على جنائز المبتدعة، والفنانين، ولاعبي الكرة، بل حتى الكفار.



قال القاضي عيـاض رحمه الله في ترجمـة الإمـام ابن فرُّوخ المالكي رحمه الله، حاكيـاً عن أبي خارجة: (فوالله لقد كنتُ معه حتى سئل عن المعتزلة، فقال للسائل: وما سؤالك عن المعتزلة؟ فعلى المعتزلة لعنة الله قبل يوم الدين، وفي يوم الدين، وبعد يوم الدين، وفي طول دهر الداهرين، فقال له: وما فيهم قوم صالحون49؟ فقال: ويحك، وهل فيهم رجل صالح؟



قال سُحنون: مات رجل من أصحاب البهلول، فحضر هو، وابن غانم، وابن فروخ، فصلوا عليه، وجيء بجنازة صخر المعتزلي، فقالوا لابن غانم: الجنازة؛ فقال: كل حي ميت، قدمـوا دابتي؛ وقيل لابن فرُّوخ مثل ذلك، فقال مثله، وقيل للبهلول مثل ذلك، فقال مثله، وانصرفوا ولم يصلوا عليه).50



ففساق أهل السنة أفضل وأحسن حالاً في البرزخ والآخرة من زهاد أهل البدع.



قال الإمام أحمد كما روى عنه ابنه عبد الله: (قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة، وقبور أهل البدع من الزهاد حفرة، فساق أهل السنة أولياء الله، وزهاد أهل البدعة أعداء الله).51



ولهذا كان الحسن البصري وأبوحنيفة رحمهما الله يلعنان عمرو بن عبيد المعتزلي مع شهادتهما له بالزهد، ولعن الشـافعي حفص المنفـرد المعتزلي وقد جـاء لعيادته، وأمر مالك بطرد أحد تلاميذ عمرو بن عبيد من مجلسه.



فأئمة أهل البدع لا يُترحم عليهم، ولا يُستغفر لهم، ولا يُصلى عليهم، هذا ما عليه أهل السنة قديماً وحديثاً، ولا تغتر بما يصنعه جل أهل زماننا، فهم مجانبون للحق، جاهلون بالسنة.





العشرون: الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة مع كل بر وفاجر

من علامات أهل السنة المميزة لهم اعتقادهم أن الجهاد بنوعيه:



1. جهاد الطلب.



2. وجهاد الدفع.



ماضٍ إلى يوم القيامة، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، ولا تخذيل وتثبيط وتخدير المخذلين، والمثبطين، والمخدرين، ولا قلة عدد وعتاد، لاعتقادهم أن النصر من عند الله عز وجل إذا نصروا دينه، وأن المسلمين في جميع غزواتهم وحروبهم للكفار لم يكونوا أكثر عدداً ولا عتاداً من الكفار، مع الأخذ بالأسباب من إعداد المستطاع من القوة، عملاً بقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".52



وأن جهاد الدفع كما هو الحال في البلاد التي احتلها وغزاها الكفار من اليهود، والنصارى، والشيوعيين، والهندوس، والبوذيون، نحو فلسطين، وأفغانستان، والعراق، والشيشان، وكشمير، وجنوب الفلبين، وتايلاند، وغيرها، لا يحتاج إلى إذن إمام ولا والدين، وإنما لهم أن يجاهدوا تحت إمرة من يأنسون فيه الكفاءة من المسلمين، فالمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وعلى إخوانهم المسلمين أن يمدوهم بالمال، والعتاد، والدعاء، وإن احتاجوا إلى الرجال وجب على من يليهم من المسلمين المقتدرين أن يمدوهم بما يمكنهم من دحر عدوهم.



من أنجح الوسائل للمدافعين المستضعفين في تلك البلاد حرب العصابات والاستنزاف، التي شرعها لهم أسلافهم الأخيار أبوبصير، وأبوجندل، وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهم، ضد كفار قريش، على الرغم من أنهم كانوا في هدنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، بما في ذلك العمليات الفدائية الجهادية التي مارسها عدد من الأبطال: غلام أصحاب الأخدود، والبراء بن مالك، وغيرهما كثير.



إن لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها





الحادية والعشرون: عدم التكفير بكل معصية

من علامات أهل السنة التي خالفوا فيها أهل الأهواء من خوارج ومعتزلة عدم تكفير أحد من أهل القبلة الموحدين بكل ذنب، إذ هناك ذنوب يكفر صاحبها، كالسجود للصنم، ووضع المصحف على الأرض ودوسه بالرجل، والنيل من أحد الأنبياء، ونحو ذلك، ما لم يستبح تلك المعصية، فإن استباحها واستحلها فقد كفر، فالذي يشرب الخمر ويعلم أن الخمر حرام من الكبائر فهو مسلم، والذي لا يشرب الخمر مثلاً ويزعم أن الخمر حلال فقد كفر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة.





الثانية والعشرون: إكفار من أكفره الله ورسوله

الإكفار ملك لله ولرسوله، فلا يكفر أحد ما لم يكفره الله ورسوله بإثبات ما نفياه، أوبنفي ما أثبتاه، مع توفر الشروط وانتفاء الموانع.



فأهل السنة يكفرون من أكفره الله ورسوله ولا يتحرَّجون في ذلك أبداً، ولا يقولون بقول أهل البدع من المرجئة، القائلين: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.



وأن الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد، ويكون بالفعل والترك، وفي حالي الجد والهزل.



لهذا اشتد نكير السلف الصالح على المرجئة، ووصفوا بدعتهم بأنها شر البدع، وأنها أشر من بدعة الخوارج، وإليك طرفاً من ذلك53 :



• قال الزهري: "ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه"، يعني المرجئة.



• وقال أبوحمزة الثمالي لإبراهيم النخعي: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: "أوه، لفقوا قولاً، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم أكثر، فإياك وإياهم".



• وقال إبراهيم: "المرجئة أخوف عندي على الإسلام من عدتهم من الأزارقة".



• قال أيوب السختياني: "قال لي سعيد بن جبير: رأيتك مع طلق؟ قلت: بلى، فماله؟ قال: لا تجالسه فإنه مرجئ".



• وقال سفيان عن المرجئة: "رأي محدث أدركنا الناس على غيره".



• قال الأوزاعي: قد كان يحيى وقتادة يقولان: "ليس في الأهواء شيء أخوف على الأمة من الإرجاء".



• وقال منصور بن المعتمر في شيء: "لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة".



• وقال شريك – وذكر المرجئة -: "هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون على الله".



• وقال الحميدي: سمعتُ وكيعاً يقول: "أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة54".



فالإكفار منه ما هو بدعي كالإكفار باقتراف كل الكبائر، ومنه ما هو شرعي كالإكفار بنفي ما أثبته الله ورسوله أوإثبات ما نفياه.



من محدثات البدع في هذا العصر زعم البعض أن المرء لا يكفر مهما ارتكب من الأعمال والأقوال الكفرية ما لم يستحل ذلك بقلبه، فالحاكم الذي يسن دستوراً على غرار الدستور الفرنسي مثلاً وينبذ شرع الله وراءه ظهرياً، والذابح للموتى، والساجد للصنم، لا يكفر أحد منهم إلا إذا استحل ذلك بقلبه الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل، فأحالوا الأمر على مستحيل، ومعلوم أن الإسلام يحكم على الناس بما ظهر منهم.



ولهذا قال الشافعي لحفص المنفرد عندما قال القرآن مخلوق: كفرتَ ورب الكعبة.



وقد أوتوا من شبهة أن الكفر العملي لا يخرج صاحبه من الإسلام، وإنما هذا هو الكفر الأصغر.



وهذا القول مخالف لما عليه أهل السنة قديماً وحديثاً، فكما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وفعل وترك، فكذلك الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد، وبالفعل والترك، وبالجد والهزل: "قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".55



قال ابن الوزير الصنعاني اليماني المتوفى 840هـ في رده على فرقة البهاشمة56 من المعتزلة: (ومن العجب أن الخصوم من البهاشمة وغيرهم لم يساعدوا على تكفير النصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومن قال بقولهم، مع نص القرآن على كفرهم، إلا بشرط أن يعتقد ذلك مع القول، وعارضوا هذه الآية الظاهرة بعموم مفهوم قوله: "ولكن من شرح بالكفر صدراً".. وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والاقوال كفراً إلا مع الاعتقاد، حتى قتل الأنبياء، والاعتقاد من السرائر المحجوبة، فلا يتحقق كفر كافرٍ قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص.. قال جماعة جلة من علماء الإسلام أنه لا يكفر المسلم بما يندر57 منه من ألفاظ الكفر إلا أن يعلم المتلفظ بها أنها كفر.. وهذا خلاف متجه، بخلاف قول البهاشمة: لا يكفر وإن علم أنه كفر حتى يعتقده).58



وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في "كتاب الصلاة"59: (وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية، ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، وكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوال الإيمان، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهزاء بالمصحف..



إلى أن قال: وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم.



وقال رحمه الله في نونيته "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" مبشعاً بعقيدة المرجئة:



وكذلك الإرجـــاء حين تقر بالـ معبــود كامـــل الإيمان



فارم المصاحف في الحشوح وخرِّب البيت العتيق وجد في العصيان



واقتل إذا ما استطعت كل موحــدٍ و تمسحـنْ بالقـس والصُّلبان



واشتم جميع المرسلين ومن أتــوا من عنده جهـــراً بلا كتمان



و إذا رأيت حجارة فاسجد لهـــا بـل خِـرَّ للأصنـام والأوثان



و أقر أن الله جـل جـــــلالُه هو وحده البـادي لذي الأكوان



و أقر أن رســوله حقـــاً أتى من عنده بالوحي والقـــرآن



فتكـون حقـاً مؤمنـاً وجميـعُ ذا وزرٌ عليك و ليس بالكفــران



هذا هو الإرجاء عند غلاتهـــم من كل جهمي أخي الشيـطان



وقال زين الدين عمر بن مظفر الوردي الشافعي في قصيدته التي بلغت خمسة آلاف بيت في الفقه الشافعي60 :



أفحش كفـر ارتـداد مسلـــم مكلف بفعـل أو تكلـــــم



محض عنـاداً وبالاستهـــزاء وباعتقاد منه كالإلقـــــاء



للمصحف العزيز في القــاذورة وسجدة لكوكب وصــــورة



وقال تقي الدين السبكي في فتاويه61: (التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية أوالوحدانية أوالرسالة، أوقول أوفعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً).



وقال محمد بن عبد الرحمن العثماني الشافعي، وهو من علماء القرن الثامن الهجري، في كتابه "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"62: (الردة هي قطع الإسلام بقول، أوفعل، أونية).



وقال ابن فرحون المالكي رحمه الله المتوفى 799هـ: (الردة والعياذ بالله، ونسأل الله حسن الخاتمة، وهي الكفر بعد الإسلام، قال ابن الحاجب: وتكون بصريحٍ وبلفظ تقتضيه، وبفعل يتضمنه).63



وقال البزاز الحنفي المتوفى 827هـ: (من لقن إنساناً كلمة الكفر ليتكلم64 بها كفر، وإن كان على وجه اللعب والضحك).65



وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند.. فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص.



وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنيا، أوجاه، أومداراة، وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه، فإذا هو لا يعرفه، ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله، أولاهما ما تقدم من قوله: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"66، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أويعمل به خوفاً من نقص مال، أوجاه، أومداراة لأحد أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.



والآية الثانية قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"67، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً، أومداراة، أومشحة بوطنه، أوأهله، أوعشيرته، أوماله، أوفعله على وجه المزح، أولغير ذلك من الأغراض، إلا المكره.



إلى أن قال:



ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أوالكلام، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.



والثانية قوله تعالى: "ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة"68، فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد، أوالجهل، أوالبغض للدين، أومحبة الكفر، وإنما سببه أنه له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم).69





الأدلة على أن الكفر الأكبر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي

• قال الحافظ الحكمي رحمه الله في "أعلام السنة المنشورة"70: (نحن لم نعرف الكفر الأصغر بالعملي مطلقاً، بل بالعملي المحض، الذي يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب ولا عمله).



• وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (الذبح لغير الله والسجود لغير الله كفر عملي مخرج من الملة، وهكذا لو صلى لغير الله أوسجد لغيره سبحانه، فإنه يكفر كفراً عملياً أكبر – والعياذ بالله – وهكذا إذا سب الدين، أوسب الرسول، أواستهزأ بالله ورسوله، فإن ذلك كفر عملي أكبر عند جميع أهل السنة والجماعة).71



• سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية72 السؤال التالي: "اعتبار تارك الصلاة كافراً كفراً عملياً والكفر العملي لا يخرج صاحبه من الملة إلا ما استثنوه من سب الله تعالى وما شابهه، فهل تارك الصلاة مستثنى؟ وما وجه الاستثناء؟"، فأجابت: (ليس كل كفر عملي لا يخرج من ملة الإسلام، بل بعضه يخرج من ملة الإسلام).



ليس هناك عقيدة ولا فكر أضر على الإسلام من العقيدة والفكر الإرجائي، لما فيه من التسيب، سيما في هذا العصر الذي أضحى فيه البعض مسلماً حكماً واسماً.



بجانب ما ذكره ابن القيم في الأبيات الماضية فإن الفكر الإرجائي في هذا العصر:



• يمثل الغطاء لكثير من الممارسات الشركية.



• يبيح للحاكم أن يحكم بما شاء، وأن يسن من الدساتير والقوانين الوضعية ما شاء، ولا يعترض عليه معترض، دعك أن يحكم عليه بحكم الله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"73، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً".74



• يشجع الكفار على غزو بلاد الإسلام والسيطرة عليها، لأنه ينهى عن مقاومة الكفار إلا إذا تكافأت القوتان، وهو ما لم يحدث في تاريخ الإسلام كله.



• ينهى عن مناصحة الحكام وتبصيرهم بواجبهم بحجة أن ذلك يدعو إلى الخروج عليهم.



• كفوا الكفار والمنافقين مؤنة بعض العلماء والدعاة، إذ أضحى شغل كثير من العلماء والدعاة الرد والطعن والتشكيك والانتقاص في إخوانهم من العلماء والدعاة الذين لم يوافقوهم فيما ذهبوا إليه.



• الفكر الإرجائي مثبط ومخذل ومخدر للأمة.



• أعطى المنافقين والعلمانيين والمنتسبين للإسلام الأمان في الاستمرار في الطعن والتشكيك في الثوابت والمسلمات وكثير من الكفريات.





الثالثة والعشرون: طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليهم

من علامات أهل السنة طاعة ولاة الأمر المحكمين لشرع الله في المعروف، وعدم الخروج المسلح عليهم ما لم يروا كفراً بواحاً، وحتى في هذه الحال ينبغي مراعاة درء المفاسد وجلب المنافع، وهذا لا يعني عدم المناصحة لولاة الأمر في السر، وإن لم تجد وتفد فلا مانع من الجهر بها كما جهر بها كثير من أئمة أهل السنة.



ومن الخطأ الفاحش الربط بين المناصحة والأمر والنهي ولو كان جهراً إن دعى الحال ولم تغن المناصحة سراً وبين الخروج على الحكام.



فالإسلام يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، فولاة الأمر لهم حقوق على الرعية، وهي:



1. طاعتهم في المعروف.



2. وإعانتهم في القيام بواجبهم.



3. وعدم الخروج عليهم.



وعليهم واجبات، هي:



1. تحكيم شرع الله في الرعية، إذ لا يحل استبداله لأي سبب من الاسباب.



2. تأمين الناس في أموالهم وممتلكاتهم وطرقهم.



3. الحكم بينهم بالعدل والسوية.



4. رفع المعاناة عن الفقراء والمساكين.



5. حماية العقيدة والأخلاق الإسلامية.





الرابعة والعشرون: حب العرب والعربية، ونبذ الشعوبية والعنصرية

من علامات أهل السنة كذلك التي غفل عنها كثير من المسلمين حب العرب والتشبه بهم، وحب العربية وتعلمها، لأنها لغة القرآن ورسول الإسلام، كثير من العادات والأعراف التي كانت عند العرب عند ظهور الإسلام هي من بقايا ملة إبراهيم عليه السلام.



قال الإمام أحمد رحمه الله معدداً للفرق المنحرفة ومحذراً منها: (والشعوبية وهم أصحاب بدعة وضلالة، وهم يقولون: إن العرب والموالي عندنا واحد، لا يرون للعرب حقاً، ولا يعرفون لهم فضلاً، ولا يحبونهم، بل يبغضون العرب ويضمرون لهم الغل والحسد والبغضة في قلوبهم، وهذا قول قبيح ابتدعه رجل من أهل العراق، فتابعه عليه يسير).75



هذا مع يقيننا أن الكرم الحقيقي هو في الإيمان والتقوى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".



وكان سلمان بن الإسلام رضي الله عنه يقول لإخوانه المسلمين من العرب: "من حقكم علينا أن لا نؤمكم في الصلاة وأن لا نتزوج نساءكم"، وهذا من تواضعه رضي الله عنه، فلا يعرف الفضل لأهله إلا أهله، وإلا فكل مسلم كفء لكل مسلمة في أرجح قولي العلماء.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن الذي عليه أهل السنة أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم، وسريانيهم، ورومهم، وفرسهم، وغيرهم، وأن قريش أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفساً، وأفضلهم نسباً.



وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم مجرد كون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وإن هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفساً ونسباً، وإلا لزم الدور.



وذهب فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم، وهؤلاء يسمُّون الشعوبية، لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما يقال: القبائل للعرب، والشعوب للعجم.



ومن الناس من قد يفضل أنواع العجم على العرب، والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نفاق، ولهذا جاء في الحديث: "حب العرب إيمان وبغضهم نفاق"76، مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين، وهو محرم في جميع المسائل، فإن الله أمر بالاعتصام بحبله ونهى عن التفرق والاختلاف).77





الأدلة على فضل جنس العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم

1. عن العباس يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق فجعلني في خير فرقهم، وخيَّر الفرقتين، ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة، ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً".78



2. وفي صحيح مسلم79: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".



3. قال صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش".80



4. وقد أوصى عمر رضي الله عنه الخليفة بعده الاهتمام بالأعراب، وعلل ذلك بأنهم مادة الإسلام.



5. وجاء في الأثر: "أفضل العجم أشبههم بالعرب، وشر العرب أشبههم بالعجم".



فحب العرب من الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق.





الخامسة والعشرون: هجر أهل الأهواء

من علامات أهل السنة المميزة لهم هجرهم لأهل البدع والفجور، سيما المجاهرين ببدعهم وفجورهم، ومن باب أولى هجرهم للكفار والمنافقين.



قال تعالى: "وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين".81



يتهاون كثير من المسلمين في هذا الأمر، بل وينكرون على من حاول الالتزام بذلك، بل نجد كثيراً من الناس يهجر ويخاصم ويفجر في خصومته لمن قصر في حقه، ويجامل ويسامح من هو مقصِّر في حقوق الله عز وجل وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم.



رحم الله الإمام ابن عقيل الحنبلي حين قال مقارناً بين ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل زمانه، فما عساه قائلاً لو رأى حال أهل زماننا؟!!: (الصحابة رضي الله عنهم آثروا فراق نفوسهم لأجل مخالفتها للخالق سبحانه وتعالى، فهذا يقول: زنيتُ فطهرني82؛ ونحن لا نسخوا أن نقاطع أحداً فيه لمكان المخالفة).83



وقال كذلك: (إذا أردتَ أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، ولكن انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعرى عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون، هذا يقول: حديث خرافة؛ والمعرى يقول:



تلوا باطلاً، وجَلوا صارماً وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم



يعني بالباطل كتاب الله عز وجل، وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب).84



قال الإمام أحمد: ويجب هجر من كفر، أوفسق ببدعة، أودعا إلى بدعة مضلة أومفسقة، على من عجز عن الرد عليه، أوخاف الاغترار به، والتأذي دون غيره؛ وقيل: يجب هجره مطلقاً، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد السابق، وقطع به ابن عقيل في "معتقده"85، قال: ليكون ذلك كسراً واستصلاحاً؛ وقال الخلال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي86، يسلم عليه؟ قال: لا، وإذا سلم عليه لا يرد.87



وقال ابن تميم الحنبلي: وهجران أهل البدع – كافرهم وفاسقهم - والمتظاهرين88 بالمعاصي، وترك السلام عليهم فرض كفاية، ومكروه لسائر الناس، وقيل: لا يسلم أحد على فاسق معلن، ولا مبتدع معلن داعية، ولا يهجر مسلماً مستوراً غيرهما من السلام فوق ثلاثة أيام.



وقال القاضي أبو الحسين: لا تختلف الرواية – عن أحمد – في وجوب هجر أهل البدع وفساق الملة؛ أطلق كما ترى، وظاهره: أنه لا فرق بين المجاهر وغيره في المبتدع والفاسق، قال: ولا فرق في ذلك بين ذي الرحم والأجنبي إذا كان الحق لله تعالى، فأما إذا كان الحق لآدمي كالقذف، والسب، والغيبة، وأخذ ماله غصباً ونحو ذلك، نظرت، فإن كان المجاهر والفاعل لذلك من أقاربه وأرحامه لم تجز هجرته، وإن كان غيره فهل تجوز هجرته أم لا؟ على روايتين.



إلى أن قال:



وسأله – أي أحمد – رجل عن ابنة عم له تنال منه وتظلمه وتشتمه وتقذفه، فقال: سلم عليها إذا لقيتها، اقطع المصارمة، المصارمة شديدة؛ وهذا يدل على منع الهجر لأقاربه لحق نفسه، وقال في رواية المروذي وقد سأله رجل فقال: إن رجلاً من أهل الخير قد تركتُ كلامه لأنه قذف مستوراً بما ليس منه، ولي قرابة يسكرون، فقال: اذهب إلى ذلك الرجل حتى تكلمه، ودع هؤلاء الذين يسكرون.89



ذكر ابن مفلح عدداً من الآثار في هجر أهل البدع، نذكر منها ما يلي90:



• روى الخلال عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يضحك في جنازة، فقال: أتضحك مع الجنازة؟ لا أكلمك أبداً.



• روى الخلال بإسناده عن أنس قيل له: إن قوماً يكذبون بالشفاعة، وقوماً يكذبون بعذاب القبر، قال: لا تجالسوهم.



• وروى الخلال كذلك بإسناده عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال لرجل جعل في عضده خيطاً من الحمى: لو متَّ وهذا عليك لم أصل عليك.



• وقال الحسن: قيل لسمرة رضي الله عنه: إن ابنك أكل طعاماً حتى كاد أن يقتله، قال: لو مات ما صليت عليه.



• وبإسناده أي الخلال أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل البصرة: أن لا تجالسوا صبيغاً.91



• وبإسناده عن مجاهد قال: قلت لابن عباس: إن أتيتك برجل يتكلم في القدر؟ فقال: لو أتيتني به لأوجعت رأسك، ثم قال: لا تكلمهم ولا تجالسهم.



• وقال سعيد بن جبير لأيوب: لا تجالس طلق بن حبيب فإنه مرجئ.



• وغطى عمر بن عبد العزيز وجهه عن رجل مبتدع.



قال القرطبي: (قال ابن العربي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا.." الآية: (وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل، قال ابن خويزمنداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمناً كان أوكافراً، قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم، وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة، فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة؛ ومثله عن أيوب السختياني، وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له؛ وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"، فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إن صانوا أسماعهم).92





السادسة والعشرون: إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها

السني يحب السنة ويبغض البدع المحدثات، ولا يغضب ويثور إذا ذكرت الأهواء وانتقدت، وإنما يغضب ويثور إذا غيرت السنن وأميتت، وحلت محلها البدع، وإذا انتهكت محارم الله عز وجل، والأهواء والبدع كلها ضلال وهلاك، وإن تفاوتت.



قال رجل لأبي بكر بن عياش: يا أبا بكر من السني؟ قال: "الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها".93



لما بويع عمر بن عبد العزيز بالخلافة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد كتابكم كتاب، ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع، ولكني متبع، ألا وإني لست بقاضٍ ولكني منفذ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت، ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملاً، ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ ثم نزل.



ولهذا رثاه عروة بن أذينة قائلاً:



وأحييتَ في الإسلام علماً وسنة ولم تبتدع حكماً من الحكم أسمحاً 94



ففي كل يوم كنت تهـدم بدعة وتبني لنــــا من سنة ما تهدم



وقال ابن المبارك رحمه الله: اعلم أخي! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على سنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الامة من ذهاب العلماء، وأهل السنة، وظهور البدع.



وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكتب إلى عماله: إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة.





السابعة والعشرون: الخوف والحذر من البدع والمحدثات

لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، فقال: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة"، وقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".



ولهذا كان مالك رحمه الله كثيراً ما ينشد:



وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع



فالمبتدع في دين الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، أي لا فرضاً ولا سنة، والبدع درجات، منها ما هو كفر، ومنها ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، وكلها ضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.



وليس هناك بدعة حسنة وأخرى سيئة: "فكل بدعة ضلالة" شامل لجميع البدع، صغيرها وكبيرها، حقيرها وجليلها، فمن لم يسعه ما وسع رسول الله، وصحبه الكرام، والسلف العظام، والخلف، فلا وسع الله عليه.



ولهذا ينبغي للمسلم أن يفر من المبتدع أشد من فراره من الاسد، فضرر المبتدع على الدين الذي هو رأس مال المسلم.



الدين رأس المال فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسران



فأهل البدع يستحقون الذل والإهانة، والبعد عنهم والتقرب إلى الله بلعنهم والترفع عليهم.



آثار وردت في ذم البدع والنهي عن مداخلة أصحابها والغضب عليهم95

• عن الحسن قال: صاحب البدعة لا يزداد اجتهاداً، صياماً ولا صلاة، إلا ازداد من الله بعداً.



• وقال أبو إدريس الخولاني التابعي: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إليَّ من أن أرى فيه بدعة96 لا أستطيع تغييرها.



• وقال الفضيل بن عياض: اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.



• وعن الحسن قال: لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك، أوتخالفه فيمرض قلبك.



• وقال أيوب السختياني: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً.



• وقال أبو قِلابة: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.



• وكان الحسن البصري وأبو حنيفة يلعنان عمرو بن عبيد مع شهادتهما له بالزهد، فكان الحسن يقول: ما أزهده لعنه الله.



• ورأى يونس بن عبيد ابنه يخرج من بيت عمرو بن عبيد فقال: لأن رأيتك خارجاً من بيت هيتي97 أحب إلي من أن أراك خارجاً من بيت عمرو بن عبيد.



• وكان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة98، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها.



• وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرَّفوا يميناً أوشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه أصحابه.



• وقال مقاتل بن حيان: أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.





أخطر الأهواء

أشد الأهواء خطورة منها ما يعتقده البعض من غير انتساب إليه، كعقيدة الخروج والرفض – التشيع، والإرجاء، والاعتزال، والقدر.



ومنها ما ينتسب إليه، كالانتساب للأحزاب العلمانية، والطرق الصوفية العديدة، لمخالفتها لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.





الثامنة والعشرون: العمل بأحاديث الآحاد التي تلقتها الأمة بالقبول واعتقاد أنها تفيد العلم القطعي والعمل

من العلامات المميزة والفوارق الواضحة بين أهل السنة وأهل الأهواء العمل بأحاديث الآحاد التي تلقتها الأمة بالقبول، خاصة ما ورد في الصحيحين واعتقاد أنها تفيد العلم والعمل.



رد السنن الصحيحة ودفعها من أوائل البدع التي ظهرت في الإسلام على لسان ذي الخويصرة التميمي، وجاراه أتباعه من الخوارج ومن شايعهم من المعتزلة والرافضة ومن قلدهم من العوام.



ومن المعلوم من دين الله أن تقسيم الأحاديث إلى أحاديث متواترة وأحاديث آحاد تقسيم فني حادث لم يكن معروفاً في القرون الفاضلة، أما تقسيم الأحاديث إلى قطعي الدلالة وظني الدلالة فمن الآثار السيئة والنتـائج الخبيثة لعلم الكـلام، الذي لو كان علمـاً لاشتغـل به الصحـابة والتابعـون كمـا قـال عبد الرحمن بن مهدي، ولكنه باطل دل على باطل.



ومعلوم كذلك أن الأحاديث المتواترة تواتراً لفظياً لا تزيد على أصابع اليدين، وكذلك الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً ليست كثيرة.



ونتج عن هذا السلوك الجائر الذي هدف من ورائه إلى رد السنن التي تخالف الأهواء الزعم الباطل بأن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في العقائد والأحكام، ونسي هؤلاء أوتناسوا أن حديث: "إنما الأعمال بالنيات" الذي يمثل ثلث الدين حديث آحاد، بل عزيز.



من أخطر المسائل العقدية وغيرها التي ردها أهل الأهواء من المعتزلة ومن سبقهم ولحقهم ما يأتي:



1. إنكار حد الردة.



2. إنكار رجم الزاني المحصن.



3. رؤية المؤمنين لربهم في الجنة حين يحجب عنه الكافرون.



4. عذاب القبر، حيث جعلوه عذاباً معنوياً يصيب الروح فقط.



5. كثير من المعجزات الكبرى نحو انشقاق القمر.



6. كثير من علامات الساعة الكبرى، نحو خروج المسيح الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، ومنهم من يؤول بعضها تاويلاً فاسداً يخرجها عن مرادها.



هذا على سبيل المثال لا الحصر، مما يدل على خطورة هذه الدعوة الباطلة، فليبشر هؤلاء بما توعدهم به ربهم: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"99، حيث فسر الإمام أحمد الفتنة بأنها الشرك.



الأدلة على حجية أحاديث الآحاد الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول وإفادتها العلم اليقيني والعمل كثيرة جداً، ومن المصادر والمراجع التي يمكن أن يرجع إليها طالب العلم في ذلك ما يأتي:



1. الإمام الشافعي في رسالته100، فهو أول من دلل على ذلك، حيث أورد في رسالته هذه نيفاً وثمانين دليلاً على حجية خبر الواحد.



2. وابن الصلاح في "علوم الحديث".



3. الحافظ ابن كثير في "الباحث الحثيث اختصار علوم الحديث".



4. وابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة".



5. وابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" المجلد الأول.



6. الشيخ الألباني في كتابه "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام".



7. "حُجِّية أحاديث الآحاد" للعبد الفقير الفاني كاتب هذه الأسطر.



فلتهنأ أيها السني بقبول كل ما صح عن نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وبدورانك مع الدليل حيث دار، واحذر من مسلك الأشرار الفجار الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، المتوعدون بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه"، أوكما قال.





التاسعة والعشرون: الحذر من الخصومات في الدين، والجدل، والمراء

من علامات أهل السنة عدم الجدل والمراء، لأنهما لا يأتيان بخير، ويكونان سبباً للنفرة وداعيان للخصومة، وإنما وظيفتهم بيان الحق وتوضيحه، وإزالة الشبه عنه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ويتعين بغض الجدل والمراء في أمور هي:



1. القرآن.



2. والقدر.



3. والنجوم.



4. ومجادلة المبتدع لغير المتمكن، فلا ينبغي أن يرد على أهل الأهواء إلا المتمكنون من أنفسهم الواثقون من علمهم.



فالموفق من أعين العمل، والمحروم من حرم العمل وتفرغ للجدل والمراء.



قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن".101



وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا".



وقال: "أنا زعيم ببيت في ربض102 الجنة لمن ترك المراء ولو كان محاً".103



جاء رجل لمالك رحمه الله فقال: أريد أن أجادلك! فقال له مالك: إن غلبتني؟ قال: تتبعني؛ قال: إن غلتبك؟ قال: أتبعك؛ قال: فإن جاء ثالث فغلبنا؟ قال: نتبعه؛ فقال له مالك: أنت ليس لك دين.



مراد مالك أن المسلم الذي وفقه الله لاتباع الحق ليس له مجال لتركه أبداً، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟



ولهذا جاء في الأثر: ما خاصم تقي قط.





الثلاثون: حب العلماء وعدم تتبع زلاتهم والحرص على عدم انتقاصهم

المراد بذلك علماء أهل السنة والجماعة، ولا يدخل في ذلك المنتسبين إلى العلم من أهل الأهواء ولا علماء السوء.



لا لأنهم فوق النقد والجرح، ولكن لمكانتهم في نفوس أتباعهم، ولتجاوزهم للقنطرة، وكما قيل: إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل الخبث؛ ومن ذلك عدم نشر زلاتهم وتقليدهم فيها، ولا يعني ذلك تقليدهم في كل ما يقولون والتعصب لأقاويلهم وإن خالفت الدليل.



يتأكد النهي عن الطعن في العلماء من صغار الطلاب وأتباع المشايخ، وينبغي لشيوخهم أن يحذروهم عن ذلك تحذيراً شديداً، وأن يمنعوهم من الخوض في ذلك منعاً باتاً.



وليحذر الذين يطلقون ألسنتهم بالسب، والشتم، والانتقاص لأهل العلم من قول الله عز وجل: "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً".104



ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" الحديث.105



والأولياء هم العلماء، إذ حاشا الله أن يتخذ ولياً جاهلاً.



قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه "التبيان": (قال الإمامان الجليلان أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله: "إن لم يكن العلماء هم أولياء الله فليس لله ولي"، وفي لفظ: "إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي".



ورحم الله الحافظ أبا القاسم بن عساكر حين قال: (اعلم يا أخي، وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب).



هذه الكلمة ينبغي أن تكتب بماء الذهب، وأن يعيها طلاب العلم ويرعوها.



روى البيهقي في "السنن الكبرى"106 عن أبي أمامة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث107 من توقير جلال الله: ذو الشيبة في الإسلام، وحامل كتاب الله عز وجل، وحامل العلم من كان صغيراً أوكبيراً".



نماذج من توقير السلف لعلمائهم108

• قال الشعبي: أخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، وقال: هكذا يصنع بالعلماء.



• وقال أيوب عن مجاهد أن ابن عمر أخذ له – أي لزيد – بالركاب.



• وأخذ الليث بركاب الزهري.



• وقال الثوري عن مغيرة: كنا نهاب إبراهيم – النخعي – كما نهاب الأمير.



• وكذلك كان أصحاب مالك مع مالك، ولذلك قال الشاعر:



يدع الجوابَ فما يراجَع هيبــة والسائلـون نواكـــس الأذقان



أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو الأميـر وليس ذا سلطان



• وقال الربيع المرادي تلميذ الشافعي: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر هيبة له.



• وقال الشافعي: إذا رأيتَ رجلاً من أصحاب الحديث فكأنما رأيتَ رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.



• وقال الفضيل بن عياض: ارحموا عزيز قوم ذلَّ، وغني قوم افتقر، وعالماً بين جهال.



• أخذ أحمد بركاب الشافعي ومشى راجلاً مودعاً له.



• وقال أبو داود صاحب السنن: ما لعنتُ أحداً قط إلا أحداً سمعته ينتقص مالكاً.



• وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه:



ومنزلــة الفقيه من السفيـــه كمنزلــة السفيه من الفقيه



فهذا زاهــد في قرب هــــذا وهذا فيه أزهــد منه فيـه



إذا غلب الشقاء على السفيه تنطع في مخالفــة الفقيه



• وأمر أحمد رحمه الله بهجر من انتقص مالكاً رحمه الله.





الحادية والثلاثون: النصح لكل مسلم

من علامات أهل السنة إسداء النصيحة لكل مسلم حسب الطاقة، مع مراعاة الحكمة، والموعظة الحسنة، والرفق، والتلطف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحـة"، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".



وحاجة المسلمين عامة والمسؤولين خاصة للمناصحة أشد من حاجتهم للأكل والشرب، وكان السلف الصالح يدعون لمن أسدى إليهم نصيحة، كما قال عمر: "رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي".



فالحذر أخي المسلم من الاستنكاف والاستكبار من قبول النصيحة من أي جهة جاءتك.





الثانية والثلاثون: الوسطية

إن السمة الجامعة لجل سمات وعلامات أهل السنة هي الوسطية، فأهل السنة هم الفرقة الخيرة الناجية، فهم وسط في باب الصفات بين نفاة الصفات وبين المجسمة، وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المدعين لهم العصمة من الرافضة والمكفرين لهم من الخوارج وغيرهم، وهم وسط بين نفاة القياس من الظاهرية وبين الغارقين فيه، وهم وسط كذلك بين الغالين والجافين، فلا تفريط ولا إفراط، ولا شطط ولا وكس؛ ولهذا وصفهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنهم نقاوة المسلمين، كما أن المسلمين نقاوة الأمم كلها.





خاتمة

علامات أهل السنة كلها حميدة، وهي كثيرة جداً، ولا يمكن الإحاطة بها، وفيما ذكرنا كفاية وغنى عما أغفلنا عنه، فالموفق من وفقه الله للاتباع، والمحروم من حرم الاقتداء والتأسي بسلف الأمة الأخيار والأئمة الأطهار.



وصلى الله وسلم على رسوله وصحابته والتابعين لهم بإحسان.



والسلام عليكم ورحمة الله.



No comments: