Saturday, May 23, 2009

العبث بامن مصر



بين الحين والآخر تندلع مثل هذه الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين في مصر ، فعلى مدار أكثر من 30 عاما وقعت مئات الحوادث التي لها أبعاد طائفية معلنة وغير معلنة ، كبيرة وصغيرة ، لكن بشكل عام فإنه من الصعب تحديد متى بالضبط بدأ هذا الاحتقان يتخذ هذه الصورة وإن كان معظم المحللين يرجعونه إلى أحداث «الخانكة» سنة 1972. ومنذ ذلك الحين توالت حلقات مسلسل «الفتنة الطائفية»، بداية من أحداث «الزاوية الحمراء» سنة 1981، التي أطلق عليها الفتنة الكبرى ، وأحداث 'عين شمس' الدامية عام 1985 ،






ومرورا بـ«إمبابة» (1991)، «أسيوط» (1994)، «الكشح» (1998) و«محرم بك» في الإسكندرية (2005) وأحداث قرية «بمها» قرب مدينة «العيّاط» (2007) التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة.


وهناك العديد من الأحداث المشابهة لا يلتفت إليها الإعلام، منها أحداث قرية «الروضة» قرب الفيوم جنوب غرب العاصمة، وفي كل مرة تتم معالجة المسألة على طريقة المسكنات دون محاولة البحث عن الأسباب الكامنة ، ومحاولة علاجها جذرياً بهدوء وببطء وعلى وقت كاف ، وليس إغلاق الجراح على ما فيها من صديد، فلابد أن ينتهي الخلاف بتعانق رجال الدين المسيحيين والمسلمين إلى جانب عبارات الدبلوماسية الدينية التي يراها البعض أقرب إلى النفاق المفتعل.


وتتمحور أغلب أسباب هذه الاشتباكات حول عدة مسائل من بينها حق بناء الكنائس ، نسبة التمثيل في الأجهزة الحكومية ، الشعور بالتمييز بين الأقباط والمسلمين في بعض الوظائف الحساسة.


ويرى البعض أن هناك طلبات للمسيحيين بعضها معقولة وأخرى غير معقولة ، فالمسيحيون في مصر يشكلون 6 % حسب الإحصائيات الرسمية. . وقد استجابت الحكومة المصرية لطلب بناء الكنائس وجعلته من سلطة المحافظين ومديري الأمن وليس رئيس الجمهورية كما كان من قبل ، مع العلم أن عدد الكنائس بالنسبة لعدد المسيحيين في مصر يزيد عن عدد المساجد بالنسبة لعدد المسلمين في مصر.


أما بالنسبة لباقي الاتهامات فمردود عليها بتعيين عدد من الوزراء الأقباط في الجهاز الحكومي ، فغير بعيد تعيين د. يوسف بطرس غالي وزيرا للمالية ـ أهم وزارة في مصر ـ إلى جانب تعيين عدد من المحافظين المسيحيين ، بل أن قيادات الشرطة تضم عددا كبيرا من أصحاب المناصب الرفيعة من الأقباط.


نسيج واحد


وبشكل عام تتميز العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر بأنها علاقة متينة وقوية وسوية حتى وصل الأمر إلى حد القول بأن المسيحيين في مصر - وخاصة الأرثوذكس منهم- ليسوا أقلية ، بل جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري والعربي والإسلامي ، وكان ذلك يرجع إلى مجموعة من العوامل منها :


- التسامح الإسلامي المعروف ، وسماح الإسلام لغير المسلمين بالمشاركة في البناء الثقافي والحضاري ، وقد ساهم المسيحيون المصريون في ذلك البناء بقوة .


- أن الإسلام حين دخل مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الروماني، وكان لذلك أثره بالإضافة إلى عوامل أخرى في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية ، التي أصبحت الوعاء الثقافي للجميع، ولا شك أن هذا صنع نوعا من التصور والوعي والتفكير المشترك .


- أن تراث الكنيسة المصرية ومن خلال صراع طويل سقط فيه العديد من المسيحيين ارتبط بفصل ما هو زمني عن ما هو روحي، ومن ثم أصبحت الكنيسة ممثلاً للمسيحيين في الجوانب الروحية فقط، وهكذا كان من الطبيعي أن يشارك المسيحيون مثل المسلمين في العمل العام سلباً وإيجاباً .


الاستقواء بالغرب


لكن ما يزيد الأمر تعقيدا محاولة زرع عوامل طائفية في البنية المصرية عبر أجهزة أجنبية وبعثات تنصير ، مثلما تم الضغط أكثر من مرة على الحكومة المصرية عن طريق الغرب الأمريكان في هذا الصدد ، الأمر الذي يوحي بأن هناك من يريد استغلال المسألة ، وانتظر هؤلاء أن تتخذ الكنيسة المصرية موقفاً حازماً من ذلك فلم يجدوا هذا الموقف ، الأمر الذي تم ترجمته في الشعور المصري العام بأن هناك استقواء من الجانب المسيحي المصري بالغرب والأمريكان.


وقد لفت الأستاذ جمال أسعد ـ وهو مسيحي أرثوذكسي مصري ـ نظر الكنيسة عدة مرات وندد بهذا الشعور بالاستقواء ، ولكن الرد كان من الكنيسة وعدد كبير من الرموز المسيحية بالهجوم على جمال أسعد بل والتشكيك في مسيحيته التي يعتز بها كما يعلق دائماً.


في الإطار نفسه نجد أن هناك جماعات مسيحية مصرية في المهجر ، تدعي أن مصر محتلة بالعرب ، وأنه ينبغي إخراج المحتلين العرب من مصر.


وتعقد هذه الجماعات مؤتمرات تقول فيها ذلك علناً بدعم معروف ومكشوف من منظمات يهودية وصهيونية وأمريكية وكنسية غربية ، ووصل الأمر بهؤلاء إلى حد تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بدعوى وجود اضطهاد في مصر للمسيحيين ، كل هذا بالطبع يترك بصمات من المرارة لدى المصريين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً تجاه الكنيسة المصرية، لأن هذا الإحساس يزيد الاحتقان الطائفي ليصبح جواً عاماً من الغيظ وعدم الثقة بين الطرفين، سيعبر عن نفسه يوماً بطريقة غير سوية إذا لم يتم علاجه.


دولة النطرون


وفي نفس الإطار فإن معالجة الحكومة لتلك الحالات لا تتميز بالحنكة المطلوبة ، فإذا حدث اعتداء على مسيحي مثلاً قامت الحكومة تحت الضغط الغربي الأمريكي ، أو لمنع وجود هذا الضغط بالظهور في صورة المنحاز لصالح المسيحي ، وهذا يخلق وجداناً طائفياً خطيراً في غير صالح المسلمين والمسيحيين أنفسهم على المدى الطويل، لأنه يخلق حالة من التخوين بين أبناء الشعب الواحد، كما أنه يؤجج مشاعر التربص والتجهيز للانقضاض على الآخر حينما تكون الفرصة مواتية.


وعلى سبيل المثال فإن السيدة وفاء قسطنطين مثلاً حين أعلنت دخولها الدين الإسلامي ، وهذا حقها الطبيعي ، اضطرت الحكومة في النهاية وتحت ضغوط أجنبية معروفة إلى تسليمها إلى الكنيسة التي قامت بحبسها داخل أحد الأديرة ، مما ترك شعوراً بالمرارة لدى المسلمين في أن موضوع حرية العقيدة تتم مخالفته لصالح الكنيسة ، وأن الكنيسة أصبحت دولة داخل الدولة ، لدرجة أن أحد الكتاب العلمانيين علق على الأمر بقوله 'إن الحكومة المصرية ليس لها سفارة في دير وادي النطرون'.


لكن حين قامت إحدى الكنائس بعرض مسرحية مسيئة للإسلام والمسلمين لم تتدخل الحكومة بذات منطق القوة مما فتح الباب أمام اندلاع مواجهات عنيفة.


وعلى هذا النحو فإنه حين تحدث أحداث طائفية ويتم اعتقال مسيحيين ومسلمين فإن البابا يصوم من أجل إطلاق سراح المسيحيين، فيتم الإفراج عنهم وتتردد الحكومة في الإفراج عن المسلمين ، وقد وصف الكاتب الإسلامي الدكتور محمد عباس ذلك بقوله إن المسلمين في مصر يعاملون كأقلية.


خلاصة القول أنه لا أحد يستطيع التشكيك في متانة الأواصر التي تربط طرفي الشعب المصري ، لكن لا يجب ـ على الجانب الآخر ـ استمراء الحقن بالإبر المهدئة مع عدم البحث عن علاج شاف لهذه الشرر التي تندلع كل فترة وتهدد بنيران لا يعلم بمداها أحد ، ولعله من المفيد في هذا الحقل دراسة المطالب القبطية الكفيلة بإنهاء حالة الاحتقان والتربص والاستقواء بالخارج، شريطة أن يتم ذلك بعيدا عن أية ضغوط سوى مصلحة الوطن والمواطنين.

No comments: