Tuesday, June 2, 2009

فرنسا و الوجه الآخر للهيمنة !

ليس صحيحاً أن الصحف الفرنسية لم تكن سعيدة و لا متحمسة لفوز نيكولا ساركوزي بكرسي الإليزيه، كمهاجر يهودي يصل إلى منصب رئيس غير فرنسي الأصل، من منظور القانون الذي يحاول نفس الرجل إعادة صياغته لأجل أن يحميه هو و يدين المهاجرين الآخرين المتهمين مسبقا بأنهم يشكلون خطرا على الأمن الفرنسي. ليس صحيحا أن صحيفة متواطئة كبيرة مثل الفيغارو غير مهتمة بالسيرة الذاتية لنيكولا ساركوزي، و لا بالأجندة السياسية التي يحملها هذا الأخير و التي حظيت بالمباركة الأمريكية مسبقا، لسبب بسيط هو أن ساركوزي زار أمريكا مرتين قبل الانتخابات، مرة علانية، و مرة سرية، و في المرتين كان له ما أراده، و ليس صحيحا أن قضية رجال الأعمال الأمريكيين ذوي الجنسية الفرنسية غير معنيين بما حضي به ساركوزي من دعم شبه مطلق من الحلف الأطلسي، و ليس آخر قضية الدبلوماسي الأمريكي (الفرنسي الجنسية) الذي كشفت بعض الصحف اليسارية ما أسمته بفضيحة الدعم اللوجستيكي الذي ناله ساركوزي من البيت الأبيض قبل و بعد الانتخابات الرئاسية، و لعل المرشحة الخاسرة "سيغولين روايال" كانت قد اتهمت علانية ساركوزي بأنه أخذ الدروس الأولية من واشنطن و أنه سيكون "كلبا وفيا" للبيت أبيض، و قد تكون تلك العبارات ردة فعل الخاسرين في نظر البعض، و لكنها في الحقيقة جزء من سياسة فرنسية جديدة لن تفعل ما فعله شيراك، و لن تكون مضطرة للتقرب إلى الدول العربية و لا حتى من باب المجاملات الدبلوماسية، لأن الحروب القادمة ستكون فرنسا طرفا فيها، وفق الرؤية التي أرادها ساركوزي فيما أسماه بالدور الفرنسي القادم في العالم، و هو الدور الذي جاء متأخرا، و لأنه كذلك فهو سيكون تحت القبعة الأمريكية و تحت السيطرة شبه المطلقة للمحافظين الجدد، حتى لو غادر جورج دابليو بوش البيت الأبيض، لأن التجارب علمتنا أن الديمقراطيين أو الجمهوريين لسوا أكثر من العملة الفاسدة لنفس الوجه القبيح، و أن المحافظين الجدد الذين انتشروا في أكثر من موقع استراتيجي داخل الولايات الأمريكية و خارجها لن يتنازلوا عن "قضيتهم" فيما يخص السيطرة على العالم "عقائديا"من جهة، و من جهة ثانية تحقيق أقصى درجات الهيمنة الفكرية، عبر خلق العدو المستمر، بحيث أن صياغة ما يسمى في لغتهم " بالعدو الإسلامي" يعني في النهاية أن حربهم الحالية ليست صدفة، بل هي جزء من تلك القضية التي على أساسها يسعون إلى صناعة الفكر الجديد القريب روحا من الصهيونية بكل ما تعنيه من حرص على الحرب لأجل الإبقاء على حالات الصراع التي تعني الإبقاء عليها قائمة.
ـ الوجه الفرنسي الجديد:
قلنا كثيرا أن الذين اعتبروا جاك شيراك صديقا رائعا للعرب، ارتبكوا خطأ تاريخيا فادحا، ليس لأن شيراك كان ضد العرب، بل لأنه لم يكن معهم كما اعتقدوا، و لم يكن إلى صفهم كما توهموا، بل كان مع مصالحه هو، و مع ما أراد أن يحظى به بصفة شخصية أو عامة، تماما كما كان يريد شارل ديغول في الستينات على سبيل المثال لا الحصر.. مشكلة شيراك أنه أراد أن يبدو مخلصا للعرب أكثر من العرب أنفسهم، حتى في الحرب الأمريكية على العراق، حاول أن يظهر بوجه الرافض للحرب، و نجح إعلاميا (بمساعدة ساذجة من الإعلام العربي) في الظهور بمظهر البطل الذي قاد أوروبا العجوز إلى رفض الحرب الأمريكية على العراق، بل ورفض الهيمنة و العجرفة الأمريكيتين! الأمريكيون كانوا يعرفون شيراك جيدا، و لعل المقالات المنشورة في تلك الفترة في الصحف الأمريكية كانت تحاول النيل منه بشكل شخصي، إلا أنها لم تكن لتأخذ حيزا حقيقا من الاهتمام الفرنسي و العربي، حتى حين صدر كتاب فرنسي، من تأليف صحفيين لا يمكن القول أنهما يعملان ضد فرنسا، جاء فيه أن جاك شيراك كان مستعدا للدخول إلى الحرب على العراق إلى جانب الولايات الأمريكية، و أنه كان مستعدا لإرسال جنوده إلى المعركة قبل أن يحدث الاختلاف. بيد أن الاختلاف لم يكن على أساس إنساني إزاء ما يمكن أن تخلفه تلك الحرب من دمار، بل كان الاختلاف على غنائم الحرب. على ماذا ستأخذه فرنسا من العراق بعد هزيمته! تلك حقائق جاءت في كتاب فرنسي أثار الكثير من الجدال في باريس أثناء صدوره، و يبقى في اعتقادنا مرجعية سياسية خطيرة عن تورط شيراك في فظائع أخرى كان يمارسها بابتسامة الرجل" المخلص للقضايا العربية" الجاهز للمساومة عليها إن كان سيحظى بنصيب من الفوائد..! الكل كان يعرف ذلك ( و الكل يفتح اليوم في فرنسا تاريخ شيراك على صدر الصحف و نشر غسيله الشخصي و السياسي حاليا في أكثر من جريدة و من موقع فرنسي)، لم يكن هذا صدفة أيضا، لا لشيء سوى لأن غريمه اللدود هو الذي يقود اليوم سيمفونية السياسية الفرنسية، و يسعى إلى إظهار الوجه الآخر لشيراك، كأنه يقول للعرب تحديدا: هذه هي حقيقة صديقكم العزيز! ليس هذا فقط، بل أن عدم الاكتراث بوصول ساركوزي للحكم في فرنسا كان صياغة غير مباشرة على الصعيد الإعلامي و بشكل مغاير بعكس الدور الذي يعتقد أن الإعلام الفرنسي سيلعبه اليوم لدعم ساركوزي في سياسته من جهة، و في قراراته أيضا حتى في طريقة محاسبته للرئيس السابق الذي يعيش اليوم فترة عصيبة بسبب الحملة غير المسبوقة ضده، و الملفات التي ستفتح قريبا أهمها ملف الفساد، والمحسوبية التي يعي الكل أن شيراك ضلع فيها بطريقة أو بأخرى.. و كأن خروج شيراك من الإليزيه لم يكن جراء انتخابات عاشتها فرنسا مؤخرا، بل كانت جراء انتهاء هذا الأخير على كل الأصعدة و إحالته اليوم على الصحافة، ليس كرئيس جمهورية سابق، بل كمتهم في قضايا ستجره إلى مليون حبل! هذه التصفية تبدو قريبة إلى الأمريكيين الذين كانوا يريدونها من قبل، و إن عجزوا فلأن شيراك كان في أوج شعبيته في العالم العربي، بحيث أن إدانته أمريكيا كان سيزيده شعبيته و هو ما لم تكن ترغب فيه لا البيت الأبيض و لا الصحف الموالية له التي توقفت عن حملتها ضد شيراك وقتها تاركة السياسة الخارجية تتصرف للحد من "شهرته" التي كانت في النهاية فقاعة صابون شيّدت نفسها على حساب قضايا العرب الذين هللوا و صفقوا له دون أن يفهموا أن العدو لن يتحول إلى صديق و لو قتل نفسه! لكن الغريب اليوم أن ساركوزي الذي يبدو ظاهريا غير مكترث بماضي سابقه، هو الذي يستفيد اليوم مما يجري، و يستفيد من الأوضاع المخلوطة في العالم، حتى و هو يستقبل السفير الأمريكي الاثنين الماضي، يحاول أن يبدو واثقا أنه يؤدي دورا فرنسيا لا أكثر و لا أقل، و هي المغالطة التي يعرف الفرنسيون المناهضين للإمبريالية الأمريكية اليوم أنها ستقودهم إلى ما كانوا يرفضونه طويلا، أي الخضوع للهيمنة الأمريكية، التي ستذهب إلى حد التورط في الحروب القادمة، بدليل ما صارت تلمح له بعض الصحف الأمريكية عن التوقيع على شراكة دفاعية بين فرنسا و أمريكا ( ولم تقل بين أوربا و أمريكا باعتبار أن فرنسا جزء من الإتحاد الأوروبي)، و هي الشراكة التي تعني فتح الباب لدخول فرنسي بشكل مباشر في الصراعات الأمريكية، ليس كطرف محايد، بل كطرف منحاز، لسبب بسيط أن عبارة " مكافحة الإرهاب" صارت اليوم على صدر الصحف الفرنسية الموالية للاليزيه، و هذا الذي نعنيه من البداية بأن مكافحة الإرهاب سيكون عنوان السياسة الفرنسية الداخلية و الخارجية و التي على أساسها سيوف يتم:
أولا: تقنين جملة من القرارات التي على أساسها سيتم طرد آلاف من المهاجرين بحجة عدم شرعية تواجدهم على الأراضي الفرنسية، و جلهم من المسلمين.
ثانيا: تم طرد عشرات من العمال العرب الذين كانوا يشتغلون في المطارات و الموانئ وسكك الحديد.. هذه القضية ذكرتها قناة الجزيرة القطرية في إحدى تغطياتها من باريس، لم تبدأ إلا بعد صدور كتاب ألفه أحد المتطرفين اليمنيين الكارهين للوجود العربي على الأراضي الفرنسية، جاء فيه السؤال التالي: كيف يمكن حماية فرنسا من الإرهاب و قد ثبت أن مئات العرب يشتغلون في المطارات والموانئ و السكك الحديد؟ ذلك الكتاب كان بمثابة مرجعية جاهزة لنيكولا ساركوزي الذي "استفاد" من أفكاره بحيث أنه تم فعلا طرد عشرات العمال و الموظفين العرب من وظائفهم في المطارات و الموانئ و السكك الحديد..! هؤلاء لم يكنوا غير شرعيين بدليل أنهم كانوا موظفين رسميين، ناهيك على أنهم يحملون الجنسية الفرنسية، مع ذلك يبدون اليوم أقرب إلى الطرد من فرنسا نفسها، فما بالك المهاجرين الآخرين الذين توافدوا على فرنسا في السنوات الأخيرة، إذ سيكون من السهل وضعهم في باخرة و دفعهم إلى البحر. العملية ليست حماية فرنسا من الإرهاب، لأن الإرهاب لن يحتاج إلى مهاجر مسكين لينموا، و لن يحتاج لموظف كادح ليترعرع، ناهيك على أن المتطرفين الفرنسيين اليمينيين (من الحزب الوطني الفرنسي) يشكلون اليوم الخطر الحقيقي على فرنسا و على الفرنسيين، أولئك النازيين الجدد المستعدين لحمل السلاح ضد الفرنسيين أنفسهم، و بيد أن لا أحد ينظر إليهم كإرهابيين، لأنهم ليسوا عربا و لأنهم ليسوا مسلمين، و لأن الأجندة الأمريكية غير مكترثة بهم طالما أنها مكتظة بالحروب المقبلة المعلنة و السرية التي من خلالها سوف تقلم أظافر كل الدول، بمن فيها الدول الأقرب إلى أمريكا من أمريكا نفسها كما فعلت مت بلير بريطانيا و من قبله مع برليسكوني إيطاليا!!
ساركوزي لا يتكرر!
جملة قريبة إلى النكتة قالها ساركوزي لمجموعة من الصحفيين على هامش لقائه بهم الأربعاء الماضي.. و إن قالها بضحكة كبيرة إلا انه يعنيها.. و يعني أنه لن يكون "غبيا" مثل شيراك، و أنه سيكون أذكى من توني بلير الذي أكلته حروبه المجانية التي دخلها هنا وهناك.. فالحرب التي يعي ساركوزي انه سينتصر فيها هي " مكافحة الإرهاب" و هي تصفية الوجود الإسلامي في فرنسا، و إن اعتبر البعض أن إقامة المجلس الإسلامي الأعلى كفيلا بحماية المسلمين الفرنسيين، فعليهم أن يزوروا فرنسا للتأكد أن السياسة الفرنسية لن تتهاون أبدا في تصفية المسلمين، و لن تتراجع عن حربها ضدهم، و مستعدة أن تصنع عمليات إرهابية في مناطق من فرنسا لاتهام المسلمين بالوقوف وراءها لأجل إجبار الفرنسيين على المطالبة علانية بطردهم جميعا.. حدث هذا في بولونيا حين تواطأ جهاز الاستخبارات في عملية تفجير محطة القطارات لأجل توريط المسلمين، و الأفارقة، و لفتح المجال لسن قوانين ردع للهجرة من جهة، و فرض ما يشبه الحصار على دول بعينها اتهمت وقتها بأنها كانت تقف وراء تلك التفجيرات، مع أن الحقيقة ظهرت قبل سنوات قليلة كاشفة الوجه البشع للتنظيمات السرية الأنجلوسكسونية مثل تنظيم "بهاند" في عمليات إرهابية حدثت في جنوب أوروبا مثل إيطاليا و أسبانيا و حتى فرنسا في الثمانينات. ما يبدو أكيداً أن الإرهاب صار لعبة سياسية يمكن استغلالها لتنفيذ القرارات التي كانت تبدو مستحيلة، إذ يكفي تفجير سيارة في باريس مثلا ليجد المسلمين أنفسهم في السجن، أو في باخرة واحدة تدفعهم إلى بلدانهم أو إلى أي منفى، و هو ما يخشى منه فعلا العديد من الملاحظين العقلانيين في فرنسا و في أوروبا
ياسمينة صالح

No comments: